الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
الجزء الثالث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ فِيهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ. فَالنَّظَرُ إِذًا يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ.
وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي كُلِّيَّاتٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَفِي الْعَوَارِضِ اللَّاحِقَةِ لَهَا وَالْأَوَّلُ يَحْتَوِي عَلَى مَسَائِلَ.
لَمَّا انْبَنَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى قَصْدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينَاتِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ مَبْثُوثَةً فِي أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ وَأَدِلَّتُهَا غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ وَلَا بِبَابٍ دُونَ بَابٍ وَلَا بِقَاعِدَةٍ دُونَ قَاعِدَةٍ كَانَ النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا أَيْضًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِجُزْئِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى; لِأَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ تَقْضِي عَلَى كُلِّ جُزْئِيٍّ تَحْتَهَا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ جُزْئِيًّا إِضَافِيًّا أَمْ حَقِيقِيًّا; إِذْ لَيْسَ فَوْقَ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ كُلِّيٌّ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، بَلْ هِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَمَّتْ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَفْقِدَ بَعْضَهَا حَتَّى يَفْتَقِرَ إِلَى إِثْبَاتِهَا بِقِيَاسٍ، أَوْ غَيْرِهِ، فَهِيَ الْكَافِيَةُ فِي مَصَالِحِ الْخَلْقِ عُمُومًا، وَخُصُوصًا; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَة: 3] وَقَالَ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 38]، وَفِي الْحَدِيث: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْجَادَّةِ» الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ: «لَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ»، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَمَامِ الْأَمْرِ، وَإِيضَاحِ السَّبِيلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْجُزْئِيَّاتُ، وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ فَمَا تَحْتَهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ شَأْنَ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ كُلِّيَّاتِهَا فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ فَمِنَ الْوَاجِبِ اعْتِبَارُ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ بِهَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ عِنْدَ إِجْرَاءِ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ; إِذْ مُحَالٌ أَنْ تَكُونَ الْجُزْئِيَّاتُ مُسْتَغْنِيَةً عَنْ كُلِّيَّاتِهَا، فَمَنْ أَخَذَ بِنَصٍّ مَثَلًا فِي جُزْئِيٍّ مُعْرِضًا عَنْ كُلِّيِّهِ، فَقَدْ أَخْطَأَ، وَكَمَا أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْجُزْئِيِّ مُعْرِضًا عَنْ كَلِّيِّهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ كَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ بِالْكُلِّيِّ مُعْرِضًا عَنْ جُزئِيِّهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ تَلَقِّي الْعِلْمِ بِالْكُلِّيِّ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَرْضِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَاسْتِقْرَائِهَا، وَإِلَّا فَالْكُلِّيُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُضَمَّنٌ فِي الْجُزْئِيَّاتِ حَسَبَمَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعْقُولَاتِ، فَإِذًا الْوُقُوفُ مَعَ الْكُلِّيِّ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجُزْئِيِّ، وُقُوفٌ مَعَ شَيْءٍ لَمْ يَتَقَرَّرِ الْعِلْمُ بِهِ بَعْدُ دُونَ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيِّ، وَالْجُزْئِيُّ هُوَ مَظْهَرُ الْعِلْمِ بِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجُزْئِيَّ لَمْ يُوضَعْ جُزْئِيًّا إِلَّا لِكَوْنِ الْكُلِّيِّ فِيهِ عَلَى التَّمَامِ، وَبِهِ قِوَامُهُ فَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْجُزْئِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ إِعْرَاضٌ عَنِ الْكُلِّيِّ نَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ وَلِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْجُزْئِيِّ جُمْلَةً يُؤَدِّي إِلَى الشَّكِّ فِي الْكُلِّيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكُلِّيِّ، أَوْ تَوَهُّمِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ، وَإِذَا خَالَفَ الْكُلِّيُّ الْجُزْئِيَّ مَعَ أَنَّا إِنَّمَا نَأْخُذُهُ مِنَ الْجُزْئِيِّ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكُلِّيَّ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعِلْمُ بِهِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْجُزْئِيُّ جُزْءًا مِنَ الْكُلِّيِّ لَمْ يَأْخُذْهُ الْمُعْتَبِرُ جُزْءًا مِنْهُ، وَإِذَا أَمْكَنَ هَذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجُزْئِيِّ فِي مَعْرِفَةِ الْكُلِّيِّ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُلِّيَّ لَا يُعْتَبَرُ بِإِطْلَاقِهِ دُونَ اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ، وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَكِّدُ لَكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ; لِأَنَّ الْكُلِّيَّ إِنَّمَا تَرْجِعُ حَقِيقَتُهُ إِلَى ذَلِكَ وَالْجُزْئِيُّ كَذَلِكَ أَيْضًا، فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِهِمَا مَعًا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ. فَإِذَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ، ثُمَّ أَتَى النَّصُّ عَلَى جُزْئِيٍّ يُخَالِفُ الْقَاعِدَةَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمُخَالَفَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمَا; لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ الْجُزْئِيِّ إِلَّا مَعَ الْحِفْظِ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ; إِذْ كُلِّيَّةُ هَذَا مَعْلُومَةٌ ضَرُورَةً بَعْدَ الْإِحَاطَةِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّ تُخْرَمَ الْقَوَاعِدُ بِإِلْغَاءِ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُعْتَبَرَ الْكُلِّيُّ، وَيُلْغَى الْجُزْئِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: الْكُلِّيُّ لَا يُثْبِتُ كُلِّيًّا إِلَّا مِنَ اسْتِقْرَاءِ الْجُزْئِيَّاتِ كُلِّهَا، أَوْ أَكْثَرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُفْرَضَ جُزْئِيٌّ إِلَّا وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ الْكُلِّيِّ; لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ قَطْعِيٌّ إِذَا تَمَّ، فَالنَّظَرُ إِلَى الْجُزْئِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ عَنَاءٌ، وَفَرْضُ مُخَالَفَتِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا أَنَّا إِذَا حَصَّلْنَا مِنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ مَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُوجَدَ إِنْسَانٌ إِلَّا وَهُوَ حَيَوَانٌ فَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيِّ حُكْمٌ قَطْعِيٌّ لَا يَتَخَلَّفُ، وُجِدَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي الْحُكْمِ بِهَذَا الْكُلِّىِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا كَذَلِكَ، فَإِذَا فُرِضَتِ الْمُخَالَفَةُ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ فَلَيْسَ بِجُزْئِيٍّ لَهُ كَالتَّمَاثِيلِ، وَأَشْبَاهِهَا. فَكَذَلِكَ هُنَا إِذَا وَجَدْنَا أَنَّ الْحِفْظَ عَلَى الدِّينِ، أَوِ النَّفْسِ، أَوِ النَّسْلِ، أَوِ الْمَالِ، أَوِ الْعَقْلِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، وَوَجَدْنَا ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْرَاءِ جُزْئِيَّاتِ الْأَدِلَّةِ حَصَلَ لَنَا الْقَطْعُ بِحِفْظِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ حَيْثُمَا وَجَدْنَاهُ فَنَحْكُمُ بِهِ عَلَى كُلِّ جُزْئِيٍّ فُرِضَ عَدَمُ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ لَا يُخَالِفُهُ عَلَى حَالٍ؛ إِذْ لَا يُوجَدُ بِخِلَافِ مَا وُضِعَ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82] فَمَا فَائِدَةُ اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيِّ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا فِي التَّفْصِيلِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إِنْ عُلِمَ أَنَّ الْحِفْظَ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ مُعْتَبَرٌ فَلَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِجِهَةِ الْحِفْظِ الْمُعَيَّنَةِ، فَإِنَّ لِلْحِفْظِ وُجُوهًا قَدْ يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ، وَقَدْ لَا يُدْرِكُهَا، وَإِذَا أَدْرَكَهَا، فَقَدْ يُدْرِكُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، أَوْ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، أَوْ عَادَةٍ دُونَ عَادَةٍ فَيَكُونُ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ خَرْمًا لِلْقَاعِدَةِ نَفْسِهَا كَمَا قَالُوا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ لَمْ يَنْسَدَّ بَابُ الْقَتْلِ بِالْقِصَاصِ إِذَا اقْتُصِرَ بِهِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ بِالْمُحَدَّدِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ، وَمِثْلُهُ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ مَثَلًا مَعَ الْمَرَضِ، وَسَائِرُ الرُّخَصِ الْهَادِمَةُ لِعَزَائِمِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إِعْمَالًا لِقَاعِدَةِ الْحَاجِيَّاتِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُسْتَثْنَيَاتُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمَانِعَةِ كَالْعَرَايَا وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَلَوِ اعْتَبَرْنَا الضَّرُورِيَّاتِ كُلَّهَا لَأَخَلَّ ذَلِكَ بِالْحَاجِيَّاتِ، أَوْ بِالضَّرُورِيَّاتِ أَيْضًا فَأَمَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا فِي كُلِّ رُتْبَةٍ جُزْئِيَّاتِهَا كَانَ ذَلِكَ مُحَافِظًا عَلَى تِلْكَ الرُّتْبَةِ، وَعَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَ يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَخُصُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ الْكُلِّ فِي مَوَارِدِهَا، وَبِحَسِبِ أَحْوَالِهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ يَعْتَبِرُ الشَّارِعُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ إِلَّا بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَكْثَرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ; لِأَنَّ الْعُقَلَاءَ فِي الْفَتَرَاتِ قَدْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِمُقْتَضَى أَنْظَارِ عُقُولِهِمْ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ إِلَى الْعَدْلِ فِي الْخَلْقِ وَالْمُنَاصَفَةِ بَيْنَهُمْ، بَلْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ الْهَرْجُ وَاقِعًا وَالْمَصْلَحَةُ تُفَوِّتُ مَصْلَحَةً أُخْرَى، وَتَهْدِمُ قَاعِدَةً أُخْرَى، أَوْ قَوَاعِدَ فَجَاءَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ وَالنَّصَفَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي كُلِّ حِينٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَبَيَّنَ مِنَ الْمَصَالِحِ مَا يَطَّرِدُ، وَمَا يُعَارِضُهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا فِي اسْتِثْنَاءِ الْعَرَايَا، وَنَحْوِهِ فَلَوْ أَعْرَضَ عَنِ الْجُزْئِيَّاتِ بِإِطْلَاقٍ لَدَخَلَتْ مَفَاسِدُ وَلَفَاتَتْ مَصَالِحُ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ؛ لِأَنَّهَا يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَلَّمَا تَخْلُو جُزْئِيَّةٌ مِنَ اعْتِبَارِ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ فِيهَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَهَا قَدْ يُعَارِضُ بَعْضًا فَيُقَدَّمُ الْأَهَمُّ حَسَبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ التَّرْجِيحِ وَالنُّصُوصُ وَالْأَقْيِسَةُ الْمُعْتَبَرَةُ تَتَضَمَّنُ هَذَا عَلَى الْكَمَالِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ اعْتِبَارِ كُلِّيَّاتِهَا، وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ مُنْتَهَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ بِإِطْلَاقٍ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي طَلَقُهُمْ فِي مَرَامِي الِاجْتِهَادِ، وَمَا قُرِّرَ فِي السُّؤَالِ عَلَى الْجُمْلَةِ صَحِيحٌ; إِذِ الْكُلِّيُّ لَا يَنْخَرِمُ بِجُزْئِيٍّ مَا، وَالْجُزْئِيُّ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيِّ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِ الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَثَلًا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَيَوَانِيَّةِ بِالذَّاتِ، وَهِيَ التَّحَرُّكُ بِالْإِرَادَةِ، وَقَدْ يَفْقِدُ ذَلِكَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ مَانِعٍ غَيْرِهِ فَالْكُلِّيُّ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَكَوْنُ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزَيْئَاتِهِ مَنَعَهُ مَانِعٌ مِنْ جَرَيَانِ حَقِيقَةِ الْكُلِّيِّ فِيهِ أَمْرٌ خَارِجٌ وَلَكِنَّ الطَّبِيبَ إِنَّمَا يَنْظُرُ فِي الْكُلِّيِّ بِحَسَبِ جَرَيَانِهِ فِي الْجُزْئِيِّ، أَوْ عَدَمِ جَرَيَانِهِ، وَيَنْظُرُ فِي الْجُزْئِيِّ مِنْ حَيْثُ يَرُدُّهُ إِلَى الْكُلِّيِّ بِالطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي لِذَلِكَ فَكَمَا لَا يَسْتَقِلُّ الطَّبِيبُ بِالنَّظَرِ فِي الْكُلِّيِّ دُونَ النَّظَرِ فِي الْجُزْئِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ طَبِيبٌ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ فَالشَّارِعُ هُوَ الطَّبِيبُ الْأَعْظَمُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ فِي الْعَسَلِ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً لِلنَّاسِ، وَتَبَيَّنَ لِلْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ عِلَلٍ كَثِيرَةٍ، وَأَنَّ فِيهِ أَيْضًا ضَرَرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ حَصَلَ هَذَا بِالتَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَقَيَّدَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ كَمَا اقْتَضَتْهُ التَّجْرِبَةُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَهِيَ امْتِنَاعُ أَنْ يَأْتِيَ فِي الشَّرِيعَةِ خَبَرٌ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ فِي أَنَّهُ شِفَاءٌ فَقَطْ فَأَعْمَلُوا الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، وَحَكَمُوا بِهَا عَلَى الْجُزْئِيِّ وَاعْتَبَرُوا الْجُزْئِيَّ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَعَارِضِ; لِأَنَّ الْعَسَلَ ضَارٌّ لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ لَهُ شِفَاءٌ، أَوْ فِيهِ لَهُ شِفَاءٌ وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ مَعًا; لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ جُزْئِيٍّ، وَفِي كُلِّ حَالٍ، بَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْجُزْئِيُّ إِذَا لَمْ تَتَحَقَّقِ اسْتِقَامَةُ الْحُكْمِ بِالْكُلِّىِّ فِيهِ كَالْعَرَايَا، وَسَائِرِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ، وَيُعْتَبَرُ الْكُلِّيُّ فِي تَخْصِيصِهِ لِلْعَامِّ الْجُزْئِيِّ، أَوْ تَقْيِيدِهِ لِمُطْلَقِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ إِخْلَالًا بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا مَعْنَى اعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ، فَلَا يَصِحُّ إِهْمَالُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأَطْرَافِ، فَإِنَّ فِيهَا جُمْلَةَ الْفِقْهِ، وَمِنْ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا أَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَ، وَحَقِيقَتُهُ نَظَرٌ مُطْلَقٌ فِي مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَأَنَّ تَتَبُّعَ نُصُوصِهِ مُطْلَقَةً، وَمُقَيَّدَةً أَمْرٌ وَاجِبٌ. فَبِذَلِكَ يَصِحُّ تَنْزِيلُ الْمَسَائِلِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَيَحْصُلُ مِنْهَا صُوَرٌ صَحِيحَةُ الِاعْتِبَارِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، أَوْ ظَنِّيًّا، فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا، فَلَا إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِهِ، كَأَدِلَّةِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَالْعَدْلِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ أَوْ لَا، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى قَطْعِيٍّ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَجَبَ التَّثَبُّتُ فِيهِ وَلَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِقَبُولِهِ وَلَكِنَّهُ قِسْمَان: قِسْمٌ يُضَادُّ أَصْلًا قَطْعِيًّا، وَقِسْمٌ لَا يُضَادُّهُ وَلَا يُوَافِقُهُ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ. وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ الظَّنِّيُّ الرَّاجِعُ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ فَإِعْمَالُهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ إِعْمَالِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44]. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ صِفَةِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَيَانٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ الْبُيُوعِ وَالرِّبَا، وَغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الْبَقَرَة: 275]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 188]. إِلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَيَانَاتِ الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ، أَوِ التَّوَاتُرِ إِلَّا أَنَّ دَلَالَتَهَا ظَنِّيَّةٌ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ أَصْلٍ قَطْعِيٍّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ مَبْثُوثٌ مَنْعُهُ فِي الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا فِي وَقَائِعَ جُزْئِيَّاتٍ، وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [الْبَقَرَة: 231]. {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6]. {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [الْبَقَرَة: 233]. وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَعَنِ الْغَصْبِ وَالظُّلْمِ وَكُلِّ مَا هُوَ فِي الْمَعْنَى إِضْرَارٌ، وَضِرَارٌ، وَيَدْخَلُ تَحْتَهُ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْعَقْلِ، أَوِ النَّسْلِ، أَوِ الْمَالِ فَهُوَ مَعْنًى فِي غَايَةِ الْعُمُومِ فِي الشَّرِيعَةِ لَا مِرَاءَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ أَخْبَارَ الْآحَادِ وَجَدْتَهَا كَذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ الظَّنِّيُّ الْمُعَارِضُ لِأَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ فَمَرْدُودٌ بِلَا إِشْكَالٍ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَمُخَالِفُ أُصُولِهَا لَا يَصِحُّ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا، وَمَا لَيْسَ مِنَ الشَّرِيعَةِ كَيْفَ يُعَدُّ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ، وَقَدْ مَثَّلُوا هَذَا الْقِسْمَ فِي الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ بِمَنْ أَفْتَى بِإِيجَابِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ابْتِدَاءً عَلَى مَنْ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَأْتِ الصِّيَامُ فِي الظِّهَارِ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً. وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُخَالَفَتُهُ لِلْأَصْلِ قَطْعِيَّةً، فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهِ. وَالْآخَرُ أَنْ تَكُونَ ظَنِّيَّةً إِمَّا بِأَنْ يَتَطَرَّقَ الظَّنُّ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُهُ قَطْعِيًّا، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَجَالٌ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَلَكِنَّ الثَّابِتَ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ مُخَالَفَةَ الظَّنِّيِّ لِأَصْلٍ قَطْعِيٍّ يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الظَّنِّيِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَالظَّاهِرِيُّ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ عَدَمُ الْمُسَاعَدَةِ فِيهِ فَمَذْهَبُهُ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمُسَاعَدَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا وَلَا تَنَاقُضَ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82]. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالظَّاهِرِيُّ لَا تَنَاقُضَ عِنْدَهُ فِي وُرُودِ نَصٍّ مُخَالِفٍ لِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ لِقَاعِدَةٍ أُخْرَى. أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ فِي الْمُخَالِفِ مَصْلَحَةً لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ عَلِمْنَاهَا، أَوْ جَهِلْنَاهَا، وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا فَأَوْضَحُ، فَإِنَّ لِلشَّارِعِ أَنْ يَأْمُرَ، وَيَنْهَى كَيْفَ شَاءَ، فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَقَدْ فَرَضُوا فِي كِتَابِ الْأَخْبَارِ مَسْأَلَةً مُخْتَلَفًا فِيهَا تَرْجِعُ إِلَى الْوِفَاقِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا: خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا كَمُلَتْ شُرُوطَ صِحَّتِهِ هَلْ يَجِبُ عَرْضُهُ عَلَى الْكِتَابِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ; لِأَنَّهُ لَا تَتَكَامَلُ شُرُوطُهُ إِلَّا وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ، وَعِنْدَ عِيسَى بْنِ أَبَانٍ يَجِبُ مُحْتَجًّا بِحَدِيثٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: «إِذَا رُوِيَ لَكُمْ حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ، وَإِلَّا فَرُدُّوهُ». فَهَذَا الْخِلَافُ كَمَا تَرَى رَاجِعٌ إِلَى الْوِفَاقِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي دَلِيلِ السُّنَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِلْمَسْأَلَةِ أَصْلٌ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَقَدْ رَدَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا حَدِيثَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» بِهَذَا الْأَصْلِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْم: 38- 39]. وَرَدَّتْ حَدِيثَ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الْأَنْعَام: 103] وَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِهَا غَيْرَ مَرْدُودٍ لِاسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ آخَرَ لَا يُنَاقِضُ الْآيَةَ، وَهُوَ ثُبُوتُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ بِأَدِلَّةٍ قُرْآنِيَّةٍ، وَسُنِّيَّةٍ تَبْلُغُ الْقَطْعَ وَلَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَرَدَّتْ هِيَ وَابْنُ عَبَّاسٍ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ اسْتِنَادًا إِلَى أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ رَفْعُ الْحَرَجِ، وَمَا لَا طَاقَةَ بِهِ عَنِ الدِّينِ، فَلِذَلِكَ قَالَا: فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟ وَرَدَّتْ أَيْضًا خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي الشُّؤْمِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ أَقْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ; لِمُعَارَضَتِهِ الْأَصْلَ الْقَطْعِيَّ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا طِيَرَةَ وَلَا عَدْوَى. وَلَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَأُخْبِرَ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِهَا، فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ إِلَّا مُهَاجِرَةُ الْفَتْحِ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى رُجُوعِهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مَنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَهَذَا اسْتِنَادٌ فِي رَأْيٍ اجْتِهَادِيٍّ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، قَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرَكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ، نَفِرُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. فَهَذَا اسْتِنَادٌ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْأَسْبَابَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِرَعْيِ الْعُدْوَةِ الْمُجْدِبَةِ وَالْعُدْوَةِ الْمُخْصِبَةِ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ بِقَدَرِ اللَّهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِحَدِيثِ الْوَبَاءِ الْحَاوِي لِاعْتِبَارِ الْأَصْلَيْنِ. وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَفِي اعْتِبَارِ السَّلَفِ لَهُ نَقْلٌ كَثِيرٌ وَلَقَدِ اعْتَمَدَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لِصِحَّتِهِ فِي الِاعْتِبَارِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا: جَاءَ الْحَدِيثُ وَلَا أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ؟ وَكَانَ يُضَعِّفُهُ، وَيَقُولُ: يُؤْكَلُ صَيْدُهُ، فَكَيْفَ يُكْرَهُ لُعَابُهُ؟ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يَرْجِعُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِه: وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ. إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَجْلِسَ مَجْهُولُ الْمُدَّةِ وَلَوْ شَرَطَ أَحَدٌ الْخِيَارَ مُدَّةً مَجْهُولَةً لَبَطَلَ إِجْمَاعًا، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ حُكْمٌ لَا يَجُوزُ شَرْطًا بِالشَّرْعِ؟ فَقَدْ رَجَعَ إِلَى أَصْلٍ إِجْمَاعِيٍّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ قَطْعِيَّةٌ، وَهَى تُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الظَّنِّيَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَثْبَتَ مَالِكٌ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي التَّمْلِيكِ. قِيلَ: الطَّلَاقُ يُعَلَّقُ عَلَى الْغَرَرِ، وَيَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا أَهْمَلَ اعْتِبَارَ حَدِيث: «مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، وَقَوْلِه: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دِينٌ» الْحَدِيثَ؛ لِمُنَافَاتِهِ لِلْأَصْلِ الْقُرْآنِيِّ الْكُلِّيِّ نَحْوَ قَوْلِه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْم: 38، 39] كَمَا اعْتَبَرَتْهُ عَائِشَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَنْكَرَ مَالِكٌ حَدِيثَ إِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ قَبْلَ الْقَسَمِ تَعْوِيلًا عَلَى أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَأَجَازَ أَكْلَ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَسَمِ لِمَنِ احْتَاجَ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَنَهَى عَنْ صِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ مَعَ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ فِيهِ تَعْوِيلًا عَلَى أَصْلِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِي الرَّضَاعِ خَمْسًا وَلَا عَشْرًا; لِلْأَصْلِ الْقُرْآنِيِّ فِي قَوْلِه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النِّسَاء: 23] وَفِي مَذْهَبِهِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَدَّمَ خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقِيَاسِ; إِذْ لَا إِجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَرَدَّ خَبَرَ الْقُرْعَةِ; لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْأُصُولَ; لِأَنَّ الْأُصُولَ قَطْعِيَّةٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ وَالْعِتْقُ حِلٌّ فِي هَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ مَا نَزَلَ فِي الْمَحَلِّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَلِذَلِكَ رَدَّهُ كَذَا قَالُوا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: إِذَا جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُعَارِضًا لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ; هَلْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ، وَتَرَدَّدَ مَالِكٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. قَالَ: وَمَشْهُورُ قَوْلِهِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنْ عَضَّدَتْهُ قَاعِدَةٌ أُخْرَى قَالَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ تَرَكَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ مَالِكٍ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَارَضَ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْن: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [الْمَائِدَة: 4] وَالثَّانِي: أَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ هِيَ الْحَيَاةُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي الْكَلْبِ، وَحَدِيثُ الْعَرَايَا إِنْ صَدَمَتْهُ قَاعِدَةُ الرِّبَا عَضَّدَتْهُ قَاعِدَةٌ الْمَعْرُوفِ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ مَنْعِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ اسْتَجَازُوا الطَّعْنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لِرَدِّهِ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْعُدُولِ. قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ إِلَى عَرْضِهَا عَلَى مَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَعَانِي الْقُرْآنِ فَمَا شَذَّ مِنْ ذَلِكَ رَدَّهُ، وَسَمَّاهُ شَاذًّا. وَقَدْ رَدَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ مُقْتَضَى حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِمَا رَآهُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ، فَإِنَّهُ قَدْ خَالَفَ أَصْلَ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ وَلِأَنَّ مُتْلِفَ الشَّيْءِ إِنَّمَا يُغَرَّمُ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، وَأَمَّا غُرْمُ جِنْسٍ آخَرَ مِنَ الطَّعَامِ، أَوِ الْعُرُوضِ، فَلَا. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيه: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْمُوَطَّأِ وَلَا الثَّابِتِ، وَقَالَ بِهِ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ شَهَادَةً بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ يَصِحُّ رَدُّهُ إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُضَادُّ هَذِهِ الْأُصُولُ الْأُخَرَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كُلُّهُ ظَهَرَ وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَا الرَّابِعُ، وَهُوَ الظَّنِّيُّ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ وَلَا يُعَارِضُ أَصْلًا قَطْعِيًّا فَهُوَ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ، وَبَابُهُ بَابُ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ، فَقَدْ يُقَالُ: لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ شَرْعٍ عَلَى غَيْرِ مَا عُهِدَ فِي مِثْلِهِ وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَهَذَانَ يُوهِنَانِ التَّمَسُّكَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ; لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الرِّيبَةِ، فَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ ظَنُّ ثُبُوتِهِ وَلِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ مُعَارِضٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ; إِذْ كَانَ عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ مُخَالَفَةً وَكُلُّ مَا خَالَفَ أَصْلًا قَطْعِيًّا مَرْدُودٌ فَهَذَا مَرْدُودٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يُوَجِّهَ الْإِعْمَالَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ عَلَى الْجُمْلَةِ ثَابِتٌ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِأَصْلٍ، فَلَا مُخَالَفَةَ فِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَضَّدَ الرَّدَّ عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ عَضَّدَ الْقَبُولَ عَدَمُ الْمُخَالَفَةِ فَيَتَعَارَضَانِ، وَيَسْلَمُ أَصْلُ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ:- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ»، وَقَدْ أَعْمَلَ الْعُلَمَاءُ الْمُنَاسِبَ الْغَرِيبَ فِي أَبْوَابِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فِي بَابِهِ فَذَلِكَ غَيْرُ ضَائِرٍ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَصْلِ الْقَطْعِيِّ لَيْسَ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِهِ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ مَثَلًا، بَلِ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ، وَهُوَ مَعْنًى مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُنَافِي قَضَايَا الْعُقُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَوْ نَافَتْهَا لَمْ تَكُنْ أَدِلَّةً لِلْعِبَادِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ لَكِنَّهَا أَدِلَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى قَضَايَا الْعُقُولِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَدِلَّةَ إِنَّمَا نُصِبَتْ فِي الشَّرِيعَةِ لِتَتَلَقَّاهَا عُقُولُ الْمُكَلَّفِينَ حَتَّى يَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهَا مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ وَلَوْ نَافَتْهَا لَمْ تَتَلَقَّهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الْأَدِلَّةِ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْأَدِلَّةُ الْمَنْصُوبَةُ عَلَى الْأَحْكَامِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ نَافَتْهَا لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِمُقْتَضَاهَا تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ بِتَصْدِيقِ مَا لَا يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَتَصَوَّرُهُ، بَلْ يَتَصَوَّرُ خِلَافَهُ، وَيُصَدِّقُهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَى الْعَقْلِ التَّصْدِيقُ ضَرُورَةً، وَقَدْ فَرَضْنَا وُرُودَ التَّكْلِيفِ الْمُنَافِي التَّصْدِيقَ، وَهُوَ مَعْنَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ بَاطِلٌ حَسَبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ هُوَ الْعَقْلُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ قَطْعًا بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ حَتَّى إِذَا فُقِدَ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ رَأْسًا، وَعُدَّ فَاقِدُهُ كَالْبَهِيمَةِ الْمُهْمَلَةِ، وَهَذَا وَاضِحٌ فِي اعْتِبَارِ تَصْدِيقِ الْعَقْلِ بِالْأَدِلَّةِ فِي لُزُومِ التَّكْلِيفِ فَلَوْ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ لَكَانَ لُزُومُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْعَاقِلِ أَشَدَّ مِنْ لُزُومِهِ عَلَى الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ وَالنَّائِمِ; إِذْ لَا عَقْلَ لِهَؤُلَاءِ يُصَدِّقُ، أَوْ لَا يُصَدِّقُ بِخِلَافِ الْعَاقِلِ الَّذِي يَأْتِيهِ مَا لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ سَاقِطًا عَنْ هَؤُلَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ سَاقِطًا عَنِ الْعُقَلَاءِ أَيْضًا، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ فَكَانَ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ بَاطِلًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكُفَّارُ أَوَّلَ مَنْ رَدَّ الشَّرِيعَةَ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى رَدِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانُوا يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهَا. فَتَارَةً يَقُولُونَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً مَجْنُونٌ، وَتَارَةً يُكَذِّبُونَهُ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ سِحْرٌ، وَشِعْرٌ وَافْتِرَاءٌ، وَإِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بِشْرٌ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ كَانَ أَوْلَى مَا يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَا يُعْقَلُ، أَوْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعُقُولِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَقَلُوا مَا فِيهِ، وَعَرَفُوا جَرَيَانَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَبَوْا مِنَ اتِّبَاعِهِ لِأُمُورٍ أُخَرَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ أَحَدٌ بِهَذَا الْمُدَّعَى فَكَانَ قَاطِعًا فِي نَفْيِهِ عَنْهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى جَرَيَانِهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ بِحَيْثُ تُصَدِّقُهَا الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ، وَتَنْقَادُ لَهَا طَائِعَةً، أَوْ كَارِهَةً وَلَا كَلَامَ فِي عِنَادِ مُعَانِدٍ وَلَا فِي تَجَاهُلِ مُتَعَامٍ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِكَوْنِهَا جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ لَا أَنَّ الْعُقُولَ حَاكِمَةٌ عَلَيْهَا وَلَا مُحَسِّنَةٌ فِيهَا وَلَا مُقَبِّحَةٌ، وَبَسْطُ هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْإِفْهَامِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ يَصُدُّ عَنِ الْقَوْلِ بِهَا غَيْرُ مَا وَجْهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أَصْلًا كَفَوَاتِحِ السُّوَرِ، فَإِنَّ النَّاسَ قَالُوا إِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا يَعْرِفُهُ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْعَرَبُ، وَفِيهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْعُلَمَاءُ بِالشَّرِيعَةِ، وَفِيهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَأَيْنَ جَرَيَانُ هَذَا الْقِسْمُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مُتَشَابِهَاتٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، أَوْ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى كَالْمُتَشَابِهَاتِ الْفُرُوعِيَّةِ، وَكَالْمُتَشَابِهَاتِ الْأُصُولِيَّةِ وَلَا مَعْنَى لِاشْتِبَاهِهَا إِلَّا أَنَّهَا تَتَشَابَهُ عَلَى الْعُقُولِ، فَلَا تَفْهَمُهَا أَصْلًا، أَوْ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا الْقَلِيلُ وَالْمُعْظَمُ مَصْدُودُونَ عَنْ فَهْمِهَا، فَكَيْفَ يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِجَرَيَانِهَا عَلَى فَهْمِ الْعُقُولِ؟ وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا أَشْيَاءَ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْعُقُولِ حَتَّى تَفَرَّقَ النَّاسُ بِهَا فِرَقًا، وَتَحَزَّبُوا أَحْزَابًا وَصَارَ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَقَالُوا فِيهَا أَقْوَالًا كُلٌّ عَلَى مِقْدَارِ عَقْلِهِ، وَدِينِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ حَتَّى أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَكَةِ كَنَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ اتَّبَعُوا فِي الْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعَلْنَا}، وَ{قَضَيْنَا}، وَ{خَلَقْنَا}، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ الطَّاعِنِينَ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالتَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ، ثُمَّ يَلِيهِمْ سَائِرُ الْفِرَقِ الَّذِينَ أَخْبَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنْ خِطَابٍ يَزِلُّ بِهِ الْعَقْلُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، فَلَوْ كَانَتِ الْأَدِلَّةُ جَارِيَةً عَلَى تَعَقُّلَاتِ الْعُقُولِ لَمَا وَقَعَ فِي الِاعْتِيَادِ هَذَا الِاخْتِلَافُ فَلَمَّا وَقَعَ فُهِمَ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ مَا لَهُ خُرُوجٌ عَنِ الْمَعْقُولِ وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا. فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ لِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِهَا مَقَالٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ أَلْبَتَّةَ فَلَيْسَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ سَلِمَ فَالْقِسْمُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّرِيعَةِ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ وَلَا تَنْخَرِمُ بِهِ الْكُلِّيَّةُ الْمُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا أَيْضًا; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إِلَى فَهْمِهِ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ إِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى مَا يُؤَدِّي مَفْهُومًا، لَكِنْ عَلَى خِلَافِ الْمَعْقُولِ، وَفَوَاتِحُ السُّوَرِ خَارِجَةٌ عَنْ ذَلِكَ; لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّهَا لَوْ بُيِّنَتْ لَنَا مَعَانِيَهَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا عَلَى مُقْتَضَى الْعُقُولِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ لَيْسَتْ مِمَّا تُعَارِضُ مُقْتَضَيَاتِ الْعُقُولِ، وَإِنْ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا ذَلِكَ; لِأَنَّ مَنْ تَوَهَّمَ فِيهَا ذَلِكَ فَبِنَاءً عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] لَا أَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَمْرٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّأْوِيلُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْقُولٍ مُوَافِقٍ لَا إِلَى مُخَالِفٍ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهَا مِمَّا لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ فَالْعُقُولُ عَنْهَا مَصْدُودَةٌ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ لَا لِمُخَالَفَتِهِ لَهَا، وَهَذَا كَمَا يَأْتِي فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَكَذَلِكَ يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْمُحْتَوِي عَلَى جُمَلٍ كَثِيرَةٍ، وَأَخْبَارٍ بِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ الْقَاصِرُ النَّظَرِ فِيهَا الِاخْتِلَافَ، وَكَذَلِكَ الْأَعْجَمِيُّ الطَّبْعِ الَّذِي يَظُنُّ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِمَا يَنْظُرُ فِيهِ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ احْتِجَاجُ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي التَّثْلِيثِ، وَدَعْوَى الْمُلْحِدِينَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ التَّنَاقُضَ وَالْمُخَالَفَةَ لِلْعُقُولِ، وَضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ جَهْلَهُمْ بِحِكَمِ التَّشْرِيعِ فَخَاضُوا حِينَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي الْخَوْضِ، وَفِيمَا لَمْ يَجُزْ لَهُمُ الْخَوْضُ فِيهِ فَتَاهُوا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا عَرَبِيَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لِيَنْظُرَ فِيهِمَا إِلَّا عَرَبِيٌّ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَقَاصِدَهُمَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِمَا; إِذْ لَا يَصِحُّ لَهُ نَظَرٌ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِهِمَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَلِذَلِكَ مِثَالٌ يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، قَالَ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101]. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصَّافَّات: 27]. {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النِّسَاء: 42] {رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَام: 23]، فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ: {بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} إِلَى قَوْلِه: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النَّازِعَات: 28- 30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبَلَ خَلْقِ الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى أَنْ قَالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} الْآيَةَ [فُصِّلَتْ: 9- 11] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ. وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفُرْقَان: 70]، {عَزِيزًا حَكِيمًا}، {سَمِيعًا بَصِيرًا} فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزُّمَر: 68]، فَلَا أَنْسَابَ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصَّافَّات: 27]. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَام: 23]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النِّسَاء: 42]، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُولُ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النِّسَاء: 42]. وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ أَيْ أَخْرَجَ الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ فَخُلِقَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، أَيْ لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. هَذَا تَمَامُ مَا قَالَ فِي الْجَوَابِ. وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعْقُولٌ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، وَأَتَى مِنْ بَابِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا ذَكَرَ الطَّاعِنُونَ، وَمَا أَشْكَلَ عَلَى الطَّالِبِينِ، وَمَا وَقَفَ فِيهِ الرَّاسِخُونَ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82]. وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ ذَلِكَ بَيَانٌ كَافٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِي رَفْعِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ عَنِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرًا، فَمَنْ تَشَوَّفَ إِلَى الْبَسْطِ، وَمَدِّ الْبَاعِ، وَشِفَاءِ الْغَلِيلِ طَلَبَهُ فِي مَظَانِّهِ.
الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْأَدِلَّةِ تَنْزِيلُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى حَسَبِهَا، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ لَهَا اعْتِبَارَانِ. اعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ مَعْقُولِيَّتِهَا وَاعْتِبَارٌ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الْخَارِجِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُكَلَّفَ بِهِ، أَوْ بِتَرْكِهِ، أَوِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ مَاهِيَّتِهِ مُجَرَّدًا عَنِ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا وَاللَّاحِقَةِ لَهَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْصَافُ لَازِمَةً، أَوْ غَيْرَ لَازِمَةٍ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الْعَقْلِيُّ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ مَاهِيَّتِهِ بِقَيْدِ الِاتِّصَافِ بِالْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ اللَّاحِقَةِ فِي الْخَارِجِ لَازِمَةً، أَوْ غَيْرَ لَازِمَةٍ، وَهُوَ الِاعْتِبَارُ الْخَارِجِيُّ فَالصَّلَاةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مَثَلًا يُتَصَوَّرُ فِيهَا هَذَانِ الِاعْتِبَارَانِ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ، وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ مِنَ الْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ، وَغَيْرِهَا، وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ فِيمَا إِذَا نُظِرَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، أَوِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي تُنْقِصُ مِنْ كَمَالِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْعَالِ. فَإِذَا صَحَّ الِاعْتِبَارَانِ عَقْلًا فَمُنْصَرَفُ الْأَدِلَّةِ إِلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ هُوَ، أَلِجِهَةِ الْمَعْقُولِيَّةِ أَمْ لِجِهَةِ الْحُصُولِ فِي الْخَارِجِ؟ هَذَا مَجَالُ نَظَرٍ مُحْتَمِلٌ لِلْخِلَافِ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى الْخِلَافِ الْمَنْصُوصُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَدِلَّةُ الْمَذَاهِبِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا يُتَحَرَّى مِنْهُ مَقْصِدُ الشَّارِعِ فِي أَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ أُمُورٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ، أَوِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، أَوِ الْمُخَيَّرَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ حَقَائِقُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْطَلِقُ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ، وَهَذَا أَمْرٌ ذِهْنِيٌّ فِي الِاعْتِبَارِ; لِأَنَّا إِذَا أَوْقَعْنَا الْفِعْلَ عَرَضْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الذِّهْنِيِّ، فَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ صَحَّ، وَإِلَّا، فَلَا. وَلِصَاحِبِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّخْيِيرِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَقُومَ الْمُكَلَّفُ بِمُقْتَضَاهَا حَتَّى تَكُونَ لَهُ أَفْعَالًا خَارِجِيَّةً لَا أُمُورًا ذِهْنِيَّةً، بَلِ الْأُمُورُ الذِّهْنِيَّةُ هِيَ مَفْهُومَاتُ الْخِطَابِ، وَمَقْصُودُ الْخِطَابِ لَيْسَ نَفْسَ التَّعَقُّلِ، بَلِ الِانْقِيَادُ وَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْخَارِجِيَّةُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَتْ عَمَلِيَّةً أَمِ اعْتِقَادِيَّةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ مَوْصُوفَةً فَيَكُونَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرِ الْمَعْقُولَ الذِّهْنِيَّ فِي الْأَفْعَالِ لَزِمَتْ شَنَاعَةُ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ الْمُقَرَّرَةُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ; لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ، أَوْ قَوْلٍ فَمِنْ لَوَازِمِهِ فِي الْخَارِجِ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْحَرَامَ، وَيَلْقَى فِيهِ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ مَرَّ بُطْلَانُهُ. وَلِصَاحِبِ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ لَوِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْقُولَ الذِّهْنِيَّ مُجَرَّدًا عَنِ الْأَوْصَافِ الْخَارِجِيَّةِ لَزِمَ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْأَوْصَافُ الْخَارِجِيَّةُ بِإِطْلَاقٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، فَإِنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ مَعْلُومٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ وَكَذَلِكَ كَلُّ فِعْلٍ سَائِغٍ فِي نَفْسِهِ، وَفِيهِ تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَوْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِحَّ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْعِيدِ وَلَا عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، أَوْ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَهَذَا الْبَابُ وَاسِعٌ جِدًّا. وَالثَّالِثُ: أَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْأَفْعَالَ مِنْ حَيْثُ هِيَ خَارِجِيَّةٌ فَقَطْ لَمْ يَصِحَّ لِلْمُكَلَّفِ عَمَلٌ إِلَّا فِي النَّادِرِ; إِذْ كَانَتِ الْأَفْعَالُ وَالتُّرُوكُ مُرْتَبِطًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ فَرَضُوا مَسْأَلَةَ مَنْ صَلَّى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ حَانَ وَقْتُهُ، وَأَلْزَمُوا الْمُخَالِفِينَ أَنْ يَقُولُوا بِبُطْلَانِ تِلْكَ الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ تَرَكَ بِهَا وَاجِبًا، وَهَكَذَا كُلٌّ مَنْ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا، وَآخَرَ سَيِّئًا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِذَا تَلَازَمَا فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التَّوْبَة: 102] لِأَنَّهُمَا إِذَا تَلَازَمَا فِي الْخَارِجِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا لِلْوَصْفِ الثَّانِي لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ صَالِحًا فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ خَلْطُ عَمَلَيْنِ، بَلْ صَارَا عَمَلًا وَاحِدًا إِمَّا صَالِحًا، وَإِمَّا سَيِّئًا، وَنَصُّ الْآيَةِ يُبْطِلُ هَذَا، وَكَذَلِكَ جَرَيَانُ الْعَوَائِدِ فِي الْمُكَلَّفِينَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ عَمَلٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ. وَلِصَاحِبِ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْأُمُورَ الذِّهْنِيَّةَ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ تُعْقَلُ، أَوْ مَا لَا تُعْقَلُ لَا يُكَلَّفُ بِهِ أَمَّا أَنَّ مَا لَا يَعْقِلُ لَا يُكَلَّفُ بِهِ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا أَنَّ الْأُمُورَ الذِّهْنِيَّةَ لَا تُعْقَلُ مُجَرَّدَةً فَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا. فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَكَالْإِنْسَانِ مَثَلًا، فَإِنَّ مَاهِيَّتَهُ الْمَعْقُولَةَ الْمُرَكَّبَةَ مِنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنُّطْقِيَّةَ لَا تَثْبُتُ فِي الْخَارِجِ; لِأَنَّهَا كُلِّيَّةٌ حَتَّى تَتَخَصَّصَ وَلَا تَتَخَصَّصُ حَتَّى تَتَشَخَّصَ، وَلَا تَتَشَخَّصُ حَتَّى تَمْتَازَ عَنْ سِوَاهَا مِنَ الْمُتَشَخِّصَاتِ بِأُمُورٍ أُخَرَ فَنَوْعُ الْإِنْسَانِ يَلْزَمُهُ خَوَاصُّ كُلِّيَّةٌ هِيَ لَهُ أَوْصَافٌ كَالضَّحِكِ وَانْتِصَابِ الْقَامَةِ، وَعَرْضِ الْأَظْفَارِ، وَنَحْوِهَا، وَخَوَاصُّ شَخْصِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي امْتَازَ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ عَنِ الْآخَرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرِ الْإِنْسَانُ فِي الْخَارِجِ أَلْبَتَّةَ، فَقَدْ صَارَتْ إِذًا الْأُمُورُ الْخَارِجَةُ الْعَارِضَةُ لَازِمَةً لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَكَالصَّلَاةِ مَثَلًا، فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا الْمُرَكَّبَةَ مِنَ الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا عَلَى كَيْفِيَّاتٍ، وَأَحْوَالٍ، وَهَيْئَاتٍ شَتَّى، وَتِلْكَ الْهَيْئَاتُ مُحْكَمَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْمَاهِيَّةِ حَتَّى يُحْكَمَ عَلَيْهَا بِالْكَمَالِ، أَوِ النُّقْصَانِ وَالصِّحَّةِ أَوِ الْبُطْلَانِ، وَهِيَ مُتَشَخِّصَاتٌ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ عَلَى صَاحِبِهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ; إِذْ هِيَ فِي الذِّهْنِ كَالْمَعْدُومِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاعْتِبَارُ فِيهَا بِمَا وَقَعَ فِي الْخَارِجِ، وَلَيْسَ إِلَّا أَفْعَالًا مَوْصُوفَةً بِأُمُورٍ خَاصَّةٍ لَازِمَةٍ، وَأُمُورٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَكُلُّ مُكَلَّفٍ مُخَاطِبٌ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِهَا فَهُوَ إِذًا مُخَاطَبٌ بِمَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَهُ فِي الْخَارِجِ، فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّوَازِمِ الْخَارِجِيَّةِ فَهُوَ إِذًا مُخَاطَبٌ بِهَا لَا بِغَيْرِهَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ حَصَلَتْ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ، أَوْ نُقْصَانِهِ فَلَمْ تَحْصُلْ إِذًا عَلَى حَقِيقَتِهَا، بَلْ عَلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى وَالَّتِي خُوطِبَ بِهَا لَمْ تَحْصُلْ بَعْدُ، فَإِنْ قِيلَ: فَيُشْكِلُ مَعْنَى الْآيَةِ إِذًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التَّوْبَة: 102]، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَحْصُلُ بِزِيَادَةٍ، أَوْ نُقْصَانٍ، وَتَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الِاعْتِبَارُ الذِّهْنِيُّ. قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ الْمُتَعَارِضَةَ الْأَحْكَامِ لَيْسَتْ بِمُتَلَازِمَةٍ لِحُصُولِهَا فِي زَمَانَيْنِ، وَفِي حَالَيْنِ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَإِذَا تَلَازَمَتْ حَتَّى صَارَ أَحَدُهَا: كَالْوَصْفِ لِلْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ كَالْوَصْفِ السَّلْبِيِّ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ التَّلَازُمِ; لِأَنَّ الْوَصْفَ السَّلْبِيَّ اعْتِبَارِيٌّ لِلْمَوْصُوفِ بِهِ لَيْسَ صِفَةً وُجُودِيَّةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ صِفَةً وُجُودِيَّةً، أَوْ كَالصِّفَةِ الْوُجُودِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى الْحَاصِلِ فِي الْخَارِجِ وَلَا يَدْخُلُ مِثْلُهُ تَحْتَ الْآيَةِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ غَيْرُ الْمُبْطِلَةِ، أَوِ النُّقْصَانُ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِمَا حَصَلَ فِي الْخَارِجِ جَارِيًا مَجْرَى الْمُخَاطَبِ بِهِ فَالصَّلَاةُ النَّاقِصَةُ أَشْبَهَتْ فِي الْخَارِجِ الصَّلَاةَ الْكَامِلَةَ فَعُومِلَتْ مُعَامَلَتَهَا لَا أَنَّهُ اعْتُبِرَ فِيهَا الذِّهْنِيُّ فِي الْجُمْلَةِ وَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَشَعَّبُ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ.
وَيَتَصَدَّى النَّظَرُ هُنَا فِيمَا يَصِيرُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَصْفًا لِصَاحِبِهِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ النَّظَرَانِ، وَمَا لَا يَصِيرُ كَذَلِكَ، فَلَا يَجْرِيَانِ فِيهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَلَازِمَةَ إِمَّا أَنْ يَصِيرَ أَحَدُهَا وَصْفًا لِلْآخَرِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَلَا تَلَازُمَ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِ الزِّنَى، أَوِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ أَحَدَ التَّرْكَيْنِ لَا يَصِيرُ كَالْوَصْفِ لِلْآخَرِ لِعَدَمِ التَّزَاحُمِ فِي الْعَمَلِ; إِذْ كَانَ يُمْكِنُ الْمُكَلَّفَ التَّرْكُ لِكُلِّ فِعْلٍ مَشْرُوعٍ، أَوْ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مُتَزَاحِمَيْنِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى أَمْرٍ سَلْبِيٍّ، وَالسَّلْبِيَّاتُ اعْتِبَارِيَّاتٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا سَلْبِيًّا، أَوْ وُجُودِيًّا، فَإِنْ كَانَ سَلْبِيًّا فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ اعْتِبَارُهُ فِيهِ شَرْعًا عَلَى الْخُصُوصِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا إِشْكَالَ فِي اعْتِبَارِ الصُّورَةِ الْخَارِجِيَّةِ كَتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَلَا اعْتِدَادَ بِالْوَصْفِ السَّلْبِيِّ كَتَرْكِ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيمَنْ فَرَّ مِنْ قَضَائِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ، وَإِنْ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا فِرَارٌ مِنْ وَاجِبٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَصْفٍ لَهَا إِلَّا اعْتِبَارِيًّا تَقْدِيرِيًّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ وُجُودِيًّا فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ لِأَوْصَافٍ فِيهَا خَارِجَةٍ عَنْ حَقَائِقِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّرُوكَ مِنْ حَيْثُ هِيَ تُرُوكٌ لَا تَتَلَازَمُ فِي الْخَارِجِ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ مَعَ التُّرُوكِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ تَلَازُمُهَا شَرْعًا، وَيَرْجِعُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى أَنَّ التَّرْكَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ مِنْ جِهَةِ فَقْدِ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ لِلْفِعْلِ الْوُجُودِيِّ كَالطِّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْأَفْعَالُ مَعَ الْأَفْعَالِ، فَهِيَ الَّتِي تَتَلَازَمُ إِذَا قُرِنَتْ فِي الْخَارِجِ فَيَحْدُثُ مِنْهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ فَيُنْظَرُ فِيهِ، وَفِي وَصْفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَعَلُّقٌ بِبَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: مَا يَرْجِعُ إِلَى النَّقْلِ الْمَحْضِ، وَالثَّانِي: مَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّأْيِ الْمَحْضِ. وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُصُولِ الْأَدِلَّةِ، وَإِلَّا فَكَلُّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّرْبَيْنِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْآخَرِ; لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَنْقُولَاتِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ كَمَا أَنَّ الرَّأْيَ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا إِلَّا إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى النَّقْلِ، فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِدْلَالُ، وَيَلْحَقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجُوهٌ إِمَّا بِاتِّفَاقٍ، وَإِمَّا بِاخْتِلَافٍ فَيَلْحَقُ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قِيلَ بِهِ، وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا; لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّعَبُّدِ بِأَمْرٍ مَنْقُولٍ صِرْفٍ لَا نَظَرَ فِيهِ لِأَحَدٍ. وَيَلْحَقُ بِالضَّرْبِ الثَّانِي الِاسْتِحْسَانُ وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرٍ نَظَرِيٍّ، وَقَدْ تَرْجِعُ إِلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِنْ شَهِدْنَا أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعُمُومَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ حَسَبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ.
ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي أَصْلِهَا مَحْصُورَةٌ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ; لِأَنَّا لَمْ نُثْبِتِ الضَّرْبَ الثَّانِيَ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْأَوَّلِ; إِذْ مِنْهُ قَامَتْ أَدِلَّةُ صِحَّةِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعُمْدَةُ، وَقَدْ صَارَ; إِذْ ذَاكَ الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مُسْتَنَدَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ مِنْ جِهَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا جِهَةُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ وَالْأُخْرَى جِهَةُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي تَسْتَنِدُ إِلَيْهَا الْأَحْكَامُ الْجُزْئِيَّةُ الْفَرْعِيَّةُ. فَالْأُولَى كَدَلَالَتِهِ عَلَى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالْبُيُوعِ وَالْحُدُودِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَالثَّانِيَةُ كَدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، وَعَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، وَشَرْعَ مِنْ قَبْلَنَا حُجَّةٌ، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ.
ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْكِتَابِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهَا إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ الْمُعْجِزَةُ، وَقَدْ حَصَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُعْجِزَتَهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِه: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ» هَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَثِيرٌ جِدًّا بَعْضُهُ يُؤْمِنُ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ وَلَكِنَّ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59]، وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَتَكْرَارُهُ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الطَّاعَةِ بِمَا أَتَى بِهِ مِمَّا فِي الْكِتَابِ، وَمِمَّا لَيْسَ فِيهِ مِمَّا هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ، وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْر: 7]، وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّور: 63] إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السُنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبِيِّنَةً لِلْكِتَابِ، وَشَارِحَةً لِمَعَانِيهِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَة: 67]، وَذَلِكَ التَّبْلِيغُ مِنْ وَجْهَيْن: تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ الْكِتَابُ، وَبَيَانُ مَعَانِيهِ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَزَاهُ عَنَّا أَفْضَلَ الْجَزَاءِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ، فَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ مَوَارِدَ السُّنَّةِ وَجَدْتَهَا بَيَانًا لِلْكِتَابِ هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْعَامُّ فِيهَا. وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورٌ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ وَالْغَايَةُ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا أَنْظَارُ النُّظَّارِ، وَمَدَارِكُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ وَرَاءَهُ مَرْمًى; لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النَّجْم: 42]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النَّحْل: 89]، وَقَالَ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 38]، وَبَيَانُ هَذَا مَذْكُورٌ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَمَبْنِىٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْن: إِحْدَاهُمَا رَاجِعَةٌ إِلَى تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ. وَالْأُخْرَى تَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. فَالْأُولَى نَظَرِيَّةٌ، وَأَعْنِي بِالنَّظَرِيَّةِ هُنَا مَا سِوَى النَّقْلِيَّةِ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أُثْبِتَتْ بِالضَّرُورَةِ أَمْ بِالْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ وَلَا أَعْنِي بِالنَّظَرِيَّةِ مُقَابِلَ الضَّرُورِيَّةِ. وَالثَّانِيَةُ نَقْلِيَّةٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ شَرْعِيٍّ، بَلْ هَذَا جَارٍ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ عَقْلِيٍّ، أَوْ نَقْلِيٍّ فَيَصِحُّ أَنْ نَقُولَ: الْأُولَى رَاجِعَةٌ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَالثَّانِيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ الْمَطَالِبِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ إِنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَلَا يَتِمُّ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ لِيُسْتَعْمَلَ، أَوْ لَا يُسْتَعْمَلَ؛ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِتَحْكُمَ عَلَى الْفَاعِلِينَ مِنْ جِهَةِ مَا هُمْ فَاعِلُونَ، فَإِذَا شَرَعَ الْمُكَلَّفُ فِي تَنَاوُلِ خَمْرٍ مَثَلًا قِيلَ: لَهُ أَهَذَا خَمْرٌ أَمْ لَا، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي كَوْنِهِ خَمْرًا، أَوْ غَيْرَ خَمْرٍ، وَهُوَ مَعْنَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فَإِذَا وُجِدَ فِيهِ أَمَارَةُ الْخَمْرِ، أَوْ حَقِيقَتُهَا بِنَظَرٍ مُعْتَبَرٍ قَالَ: نَعَمْ هَذَا خَمْرٌ، فَيُقَالُ لَهُ كُلُّ خَمْرٍ حَرَامُ الِاسْتِعْمَالِ فَيَجْتَنِبُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَاءٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ هَلْ هُوَ مُطْلَقٌ أَمْ لَا، وَذَلِكَ بِرُؤْيَةِ اللَّوْنِ، وَبِذَوْقِ الطَّعْمِ، وَشَمِّ الرَّائِحَةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ خِلْقَتِهِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ مَنَاطُهُ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ، وَهِىَ الْمُقَدِّمَةُ النَّظَرِيَّةُ، ثُمَّ يُضِيفُ إِلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ ثَانِيَةً نَقْلِيَّةً، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَاءٍ مُطْلَقٍ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَظَرَ هَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْوُضُوءِ أَمْ لَا فَيَنْظُرُ هَلْ هُوَ مُحْدِثٌ أَمْ لَا، فَإِنْ تَحَقَّقَ الْحَدَثُ، فَقَدْ حَقَّقَ مَنَاطَ الْحُكْمِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِالْوُضُوءِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ فَقْدُهُ فَكَذَلِكَ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْوُضُوءِ، وَهَى الْمُقَدِّمَةُ النَّقْلِيَّةُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مُطْلَقَةً، وَمُقَيَّدَةً، وَذَلِكَ مُقْتَضَى إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهِيَ النَّقْلِيَّةُ وَلَا يَنْزِلُ الْحُكْمُ بِهَا إِلَّا عَلَى مَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ مَنَاطُ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ عَلَى التَّقْيِيدِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْمُقَدِّمَةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. نَعَمْ، وَفِي اللُّغَوِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَأَرَدْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا الَّذِي يُرْفَعُ مِنَ الِاسْمَيْنِ، وَمَا الَّذِي يُنْصَبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْفَاعِلِ مِنَ الْمَفْعُولِ، فَإِذَا حَقَّقْنَا الْفَاعِلَ، وَمَيَّزْنَاهُ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْمُقَدِّمَةِ النَّقْلِيَّةِ، وَهَى أَنَّ كُلَّ فَاعِلٍ مَرْفُوعٌ، وَنَصَبْنَا الْمَفْعُولَ كَذَلِكَ; لِأَنَّ كُلَّ مَفْعُولٍ مَنْصُوبٌ، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُصَغِّرَ عَقْرَبًا حَقَّقْنَا أَنَّهُ رُبَاعِيٌّ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ أَبْنِيَةِ التَّصْغِيرِ بِنْيَةَ فُعَيْعِلٍ; لِأَنَّ كُلَّ رُبَاعِيٍّ عَلَى هَذِهِ الشَّاكِلَةِ تَصْغِيرُهُ عَلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ عُلُومِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا الْعَقْلِيَّاتُ فَكَمَا إِذَا نَظَرْنَا فِي الْعَالَمِ هَلْ هُوَ حَادِثٌ أَمْ لَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْعَالَمُ فَنَجِدُهُ مُتَغَيِّرًا، وَهِيَ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى، ثُمَّ نَأْتِي بِمُقَدِّمَةٍ مُسَلَّمَةٍ، وَهُوَ قَوْلُنَا: كُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ. لَكِنَّا قُلْنَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَسَائِرِ النَّقْلِيَّاتِ إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ نَظَرِيَّةً، وَهِيَ الْمُفِيدَةُ لِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ أَيْضًا، وَالْأُخْرَى نَقْلِيَّةً فَمَا الَّذِي يَجْرِي فِي الْعَقْلِيَّاتِ مَجْرَى النَّقْلِيَّاتِ؟ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ تَأَمُّلِهِ. وَالَّذِي يُقَالُ: فِيهِ أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمُقَدِّمَةِ النَّقْلِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُسَلَّمَةً إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهَا نَقْلِيَّةٌ، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ تَصْحِيحِهَا نَقْلًا، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْمُقَدِّمَاتُ الْمُسَلَّمَةُ، وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ، وَمَا تَنَزَّلَ مَنْزِلَتَهَا مِمَّا يَقَعُ مُسَلَّمًا عِنْدَ الْخَصْمِ فَهَذِهِ خَاصِّيَّةُ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُسَلَّمَةً، وَخَاصِّيَّةُ الْأُخْرَى أَنْ تَكُونَ تَحْقِيقَ مَنَاطِ الْأَمْرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَسْطِ هُنَا، فَإِنَّ التَّأَمُّلَ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِيهِ، وَأَيْضًا فِي فَصْلِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لَهُ بَيَانٌ آخَرُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ مُطْلَقًا غَيْرُ مُقَيِّدٍ وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قَانُونٌ وَلَا ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ وُكِّلَ إِلَى نَظَرِ الْمُكَلَّفِ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَكْثَرُ مَا تَجِدُهُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى كَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَفْوِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ وَالْبَغْيِ، وَنَقْضِ الْعَهْدِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ. وَكُلُّ دَلِيلٍ ثَبَتَ فِيهَا مُقَيَّدًا غَيْرَ مُطْلَقٍ وَجُعِلَ لَهُ قَانُونٌ، وَضَابِطٌ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى تَعَبُّدِيٍّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ نَظَرُ الْمُكَلَّفِ لَوْ وُكِّلَ إِلَى نَظَرِهِ; إِذِ الْعِبَادَاتُ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي أَصْلِهَا فَضْلًا عَنْ كَيْفِيَّاتِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ عَلَيْهَا; لِأَنَّهَا مِنْ جَنْسِهَا، وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي كَثِيرٌ فِي الْأُصُولِ الْمَدَنِيَّةِ; لِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَقْيِيدَاتٌ لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ إِطْلَاقُهُ، أَوْ إِنْشَاءُ أَحْكَامٍ وَارِدَاتٍ عَلَى أَسْبَابٍ جُزْئِيَّةٍ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِإِيرَادِ مَسْأَلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ.
فَنَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ فِي الْمَدَنِيَّاتِ أَصْلًا كُلِّيًّا فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ جُزْئِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، أَوْ تَكْمِيلًا لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُصُولَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِحِفْظِهَا خَمْسَةٌ، وَهِيَ الدِّينُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْلُ وَالنَّسْلُ وَالْمَالُ. أَمَّا الدِّينُ فَهُوَ أَصْلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا نَشَأَ عَنْهُمَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَأَمَّا النَّفْسُ فَظَاهِرٌ إِنْزَالُ حِفْظِهَا بِمَكَّةَ كَقَوْلِه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الْأَنْعَام: 151]، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التَّكْوِير: 8]، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الْأَنْعَام: 119]، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ تَحْرِيمُ مَا يُفْسِدُهُ، وَهُوَ الْخَمْرُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَكِيَّاتِ مُجْمَلًا; إِذْ هُوَ دَاخَلٌ فِي حُرْمَةِ حِفْظِ النَّفْسِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَمَنَافِعِهَا مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ مَنَافِعُهَا، فَالْعَقْلُ مَحْفُوظٌ شَرْعًا فِي الْأُصُولِ الْمَكِّيَّةِ عَمَّا يُزِيلُهُ رَأْسًا كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَإِنَّمَا اسْتُدْرِكَ بِالْمَدِينَةِ حِفْظُهُ عَمَّا يُزِيلُهُ سَاعَةً، أَوْ لَحْظَةً، ثُمَّ يَعُودُ كَأَنَّهُ غُطِّيَ ثُمَّ كُشِفَ عَنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حِفْظَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ; لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَثَالِبَهَا فِي الْقُرْآنِ، حَيْثُ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [الْمَائِدَة: 91] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَظَهَرَ أَنَّهَا مِنَ الْعَوْنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَأَمَّا النَّسْلُ، فَقَدْ وَرَدَ الْمَكِّيُّ مِنَ الْقُرْآنِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْأَمْرِ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ إِلَّا عَلَى الْأَزْوَاجِ، أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا الْمَالُ فَوَرَدَ فِيهِ تَحْرِيمُ الظُّلْمِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْإِسْرَافِ وَالْبَغْيِ، وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ، أَوِ الْمِيزَانِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا دَارَ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْعِرْضُ الْمُلْحَقُ بِهَا فَدَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ أَذِايَّاتِ النُّفُوسِ. وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي الْحِفْظِ مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ إِلَّا وَحِفْظُهَا مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ حَاصِلٌ، فَفِي الْأَرْبَعَةِ الْأَوَاخِرِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الدِّينُ فَرَاجِعٌ إِلَى التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالِانْقِيَادِ بِالْجَوَارِحِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ آتٍ بِالْمَقْصُودِ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِيُفَرِّعَ عَنْ ذَلِكَ كُلُّ مَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي الْمَدَنِيِّ فَالْأَصْلُ وَارِدٌ فِي الْمَكِّيِّ، وَالِانْقِيَادُ بِالْجَوَارِحِ حَاصِلٌ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ تَكْمِيلًا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَكِّيِّ مِنْ ذَلِكَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى الِانْقِيَادِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ وَالْحَجُّ فَمَدَنِيَّانِ مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْعَرَبِ أَوَّلًا وِرَاثَةً عَنْ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَصْلَحَ مِنْهُ مَا أَفْسَدُوا وَرَدَّهُمْ فِيهِ إِلَى مَشَاعِرِهِمْ. وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ أَيْضًا، فَقَدْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ أَيْضًا حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ حَتَّى نَسَخَهُ رَمَضَانُ وَانْظُرْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَأَحْكَمَهُمَا التَّشْرِيعُ الْمَدَنِيُّ، وَأَقَرَّهُمَا عَلَى مَا أَقَرَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّمَامِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَيَّامِهِ حِينَ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 3] فَلَهُمَا أَصْلٌ فِي الْمَكِّيِّ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَالْجِهَادُ الَّذِي شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ مُقَرَّرٌ بِمَكَّةَ كَقَوْلِه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لُقْمَانَ: 17]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يُمْكِنُ أَخْذُهُ كُلِّيًّا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ كُلِّيًّا أَمْ جُزْئِيًّا إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَاب: 50]، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَنَدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا، أَوْ جُزْئِيًّا، فَإِنْ كَانَ كُلِّيًّا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ جُزْئِيًّا فَبِحَسَبِ النَّازِلَةِ لَا بِحَسَبِ التَّشْرِيعِ فِي الْأَصْلِ بِأَدِلَّةٍ. مِنْهَا عُمُومُ التَّشْرِيعِ فِي الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَاف: 158]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سَبَأٍ: 28]، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44]. وَهَذَا مَعْنًى مَقْطُوعٌ بِهِ لَا يَخْرِمُ الْقَطْعَ بِهِ مَا جَاءَ مِنْ شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ، وَعِنَاقِ أَبِي بُرْدَةَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «بُعِثْتُ لِلْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ». وَمِنْهَا أَصْلُ شَرْعِيَّةِ الْقِيَاسِ; إِذْ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا جَعْلُ الْخَاصِّ الصِّيغَةِ عَامَّ الصِّيغَةِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَخْذُ الدَّلِيلِ كُلِّيًّا بِإِطْلَاقٍ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 37]، فَإِنَّ نَفْسَ التَّزْوِيجِ لَا صِيغَةَ لَهُ تَقْتَضِي عُمُومًا، أَوْ غَيْرَهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ لِأَجْلِ التَّأَسِّي، فَقَالَ: {لِكَيْلَا} وَلِذَلِكَ قَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَاب: 21] هَذَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِأَشْيَاءَ كَهِبَةِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لَهُ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ أَزْوَاجِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ شُمُولِ الْأَدِلَّةِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ الْمُسْتَثْنَى فَغَيْرُهُ أَحَقُّ أَنْ تَكُونَ الْأَدِلَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مَقْصُودَةَ الْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا صِيَغُ عُمُومٍ، وَهَكَذَا الصِّيَغُ الْمُطْلَقَةُ تَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْعَامَّةِ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، وَفِعْلِهِ فَالْقَوْلُ كَقَوْلِه: حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ »، وَقَوْلِهِ فِي قَضَايَا خَاصَّةٍ سُئِلَ فِيهَا: أَهِيَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟: «بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً» كَمَا فِي قَضِيَّةِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هُودٍ: 114]، وَأَشْبَاهِهَا، وَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قُدْوَةً لِلنَّاسِ كَمَا ظَهَرَ فِي حَدِيثِ الْإِصْبَاحِ جُنْبًا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ، وَالْغَسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. وَقَوْلُهُ: «إِنِّي لَأَنْسَى، أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ»، وَقَوْلُهُ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وَهُوَ كَثِيرٌ.
الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي جُعِلَ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ كَيْفَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَهُوَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ، وَيَدْخُلُ هُنَا جَمِيعُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاء: 22]، وَقَوْلِه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْل: 103]، وَقَوْلِه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فُصِّلَتْ: 44]، وَقَوْلِه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، وَقَوْلِه: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [الْبَقَرَة: 258]، وَقَوْلِه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} إِلَى قَوْلِه: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الرُّوم: 40]، وَهَذَا الضَّرْبُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمُوَالِفِ وَالْمُخَالِفِ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ عَقْلٌ، فَلَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى الْمُوَافِقِ فِي النِّحْلَةِ. وَالثَّانِي: مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي النِّحْلَةِ، وَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ كَدَلَالَةِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَدَلَالَةِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [الْبَقَرَة: 178]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [الْبَقَرَة: 183]، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [الْبَقَرَة: 187]، فَإِنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ وَأَمْثَالَهَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَ الْبَرَاهِينِ وَلَا أُتِيَ بِهَا فِي مَحَلِّ اسْتِدْلَالٍ، بَلْ جِيءَ بِهَا قَضَايَا يُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا مُسَلَّمَةً مُتَلَقَّاةً بِالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا بُرْهَانُهَا فِي الْحَقِيقَةِ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ الْآتِي بِهَا، فَإِذَا ثَبَتَ بِرِهَانُ الْمُعْجِزَةِ ثَبَتَ الصِّدْقُ، وَإِذَا ثَبَتَ الصِّدْقُ ثَبَتَ التَّكْلِيفُ عَلَى الْمُكَلَّفِ. فَالْعَالِمُ إِذَا اسْتَدَلَّ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ أَخَذَ الدَّلِيلَ إِنْشَائِيًّا كَأَنَّهُ هُوَ وَاضِعُهُ، وَإِذَا اسْتَدَلَّ بِالضَّرْبِ الثَّانِي: أَخَذَهُ مَعْنًى مُسَلَّمًا لِفَهْمِ مُقْتَضَاهُ إِلْزَامًا وَالْتِزَامًا، فَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الدَّلِيلِ عَلَى الضَّرْبَيْنِ فَهُوَ إِطْلَاقٌ بِنَوْعٍ مِنِ اشْتِرَاكِ اللَّفْظِ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ خِلَافُهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، فَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ جَارٍ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي نَتِيجَةٌ أَنْتَجَتْهَا الْمُعْجِزَةُ فَصَارَتْ قَوْلًا مَقْبُولًا فَقَطْ.
إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي اللَّفْظِ لَمْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِىِّ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَعْمِيمِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَإِلَّا فَلَا. فَمِثَالُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ قَالَ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يُونُسَ: 31] فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ كَإِخْرَاجِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ، وَبِالْعَكْسِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ الْمَجَازِيَّيْنِ الْمُسْتَعْمَلَيْنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 122] وَرُبَّمَا ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَعْمِيمِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ وَاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَمَجَازِهِ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ. وَمِثَالُ مَا تَخَلَّفَ فِيهِ الشَّرْطُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النِّسَاء: 43]. فَالْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكْرِ مَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، أَوْ سُكْرُ النَّوْمِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ مُسْتَعْمَلٌ، وَأَنَّ الْجَنَابَةَ وَالْغُسْلَ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَوْ فُسِّرَ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ هُوَ سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ، وَحُبِّ الدُّنْيَا الْمَانِعِ مِنْ قَبُولِ الْعِبَادَةِ فِي اعْتِبَارِ التَّقْوَى كَمَا مَنَعَ سُكْرُ الشَّرَابِ مِنَ الْجَوَازِ فِي صُلْبِ الْفِقْهِ، وَأَنَّ الْجَنَابَةَ الْمُرَادُ بِهَا التَّضَمُّخُ بِدَنَسِ الذُّنُوبِ وَالِاغْتِسَالُ هُوَ التَّوْبَةُ، لَكَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ; لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَسْتَعْمِلْ مِثْلَهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا عَهْدَ لَهَا بِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَفْهَمُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالِاغْتِسَالِ إِلَّا الْحَقِيقَةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّعْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] إِشَارَةٌ إِلَى خَلْعِ الْكَوْنَيْنِ، فَهَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ لَا فِي حَقَائِقِهَا الْمُسْتَعْمَلَةِ وَلَا فِي مَجَازَاتِهَا وَرُبَّمَا نُقِلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَدَاوَوْا، فَإِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ» أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى التَّدَاوِي بِالتَّوْبَةِ مِنْ أَمْرَاضِ الذُّنُوبِ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مِثْلِهِ، وَأَوَّلُ قَاطِعٍ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَرَبِيًّا، وَبِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ إِنَّمَا جَاءَتْ عَلَى مَا هُوَ مَعْهُودٌ لَهُمْ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ خَارِجٌ عَنْهُ وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَإِنْ نُقِلَ فِي التَّفْسِيرِ نَحْوُهُ عَنْ رَجُلٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ فَالْقَوْلُ فِيهِ مَبْسُوطٌ بَعْدَ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ.
كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ دَائِمًا، أَوْ أَكْثَرِيًّا، أَوْ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا، أَوْ فِي وَقْتٍ مَا، أَوْ لَا يَثْبُتُ بِهِ عَمَلٌ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ دَائِمًا، أَوْ أَكْثَرِيًّا، فَلَا إِشْكَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ وَلَا فِي الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِهِ، وَهِيَ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ وَالطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ كَانَ الدَّلِيلُ مِمَّا يَقْتَضِي إِيجَابًا، أَوْ نَدْبًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ كَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْلِه: فِي الطِّهَارَاتِ وَالصَّلَوَاتِ عَلَى تَنَوُّعِهَا مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ، وَالزَّكَاةِ بِشُرُوطِهَا وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبُيُوعِ، وَسِوَاهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَبَيَّنَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ، أَوْ فِعْلِهِ، أَوْ إِقْرَارِهِ، وَوَقَعَ فِعْلُهُ، أَوْ فِعْلُ صَحَابَتِهِ مَعَهُ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ دَائِمًا، أَوْ أَكْثَرِيًّا، وَبِالْجُمْلَةِ سَاوَى الْقَوْلُ الْفِعْلَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ بِوَجْهٍ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ وَصِحَّةِ الْعَمَلِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا عَمِلَ بِهِ الْأَوَّلُونَ جَرَى فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنَ اعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا قَلِيلًا، أَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، أَوْ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَوَقَعَ إِيثَارُ غَيْرِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ دَائِمًا، أَوْ أَكْثَرِيًّا فَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ وَالطَّرِيقُ السَّابِلَةُ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَقَعِ الْعَمَلُ عَلَيْهِ إِلَّا قَلِيلًا فَيَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ، وَفِي الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِهِ، وَالْمُثَابَرَةُ عَلَى مَا هُوَ الْأَعَمُّ وَالْأَكْثَرُ، فَإِنَّ إِدَامَةَ الْأَوَّلِينَ لِلْعَمَلِ عَلَى مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَقَلِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ، أَوْ لِغَيْرِ مَعْنًى شَرْعِيٍّ، وَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مَعْنًى شَرْعِيٍّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ تَحَرَّوُا الْعَمَلَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ الْقَلِيلِ كَالْمُعَارِضِ لِلْمَعْنَى الَّذِي تَحَرَّوُا الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَارِضًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَرِّي مَا تَحَرَّوْا، وَمُوَافَقَةِ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا الْمَنْقُولَ الَّذِي قَلَّ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ مَا كَثُرَ الْعَمَلُ بِهِ يَقْتَضِيَانِ التَّخْيِيرَ فَعَمَلُهُمْ إِذَا حُقِّقَ النَّظَرُ فِيهِ لَا يَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّخْيِيرِ، بَلِ اقْتَضَى أَنَّ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ هُوَ الْأَوْلَى فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْوَاقِعُ عَلَى وَفْقِ الْآخَرِ لَا حَرَجَ فِيهِ كَمَا نَقُولُ: فِي الْمُبَاحِ مَعَ الْمَنْدُوبِ إِنَّ وَضْعَهُمَا بِحَسَبِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ يُشْبِهُ الْمُخَيَّرَ فِيهِ; إِذْ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَصَارَ الْمُكَلَّفُ كَالْمُخَيَّرِ فِيهِمَا لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَنْدُوبُ أَوْلَى أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِنَ الْمُبَاحِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَإِلَى هَذَا، فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْأُصُولِ أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ لَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِهَا حُجَّةً مَا لَمْ يُعَضِّدْهَا دَلِيلٌ آخَرُ لِاحْتِمَالِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَإِمْكَانِ أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْمُسْتَمِرُّ، وَمِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَمَا بَعْدَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَرَجَّحَ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَلِيلِ وَلِهَذَا الْقِسْمِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِ لِلْعَمَلِ الْقَلِيلِ وَجْهٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْقِلَّةِ حَتَّى إِذَا عُدِمَ السَّبَبُ عُدِمَ الْمُسَبَّبُ وَلَهُ مَوَاضِعُ كَوُقُوعِهِ بَيَانًا لِحُدُودٍ حُدَّتْ، أَوْ أَوْقَاتٍ عُيِّنَتْ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ، وَبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: «صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ» فَصَلَاتُهُ فِي الْيَوْمِ فِي أَوَاخِرِ الْأَوْقَاتِ وَقَعَ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِآخِرِ الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيٍّ الَّذِي لَا يُتَعَدَّى، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ مُثَابِرًا عَلَى أَوَائِلِ الْأَوْقَاتِ إِلَّا عِنْدَ عَارِضٍ كَالْإِبْرَادِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ» إِلَخْ بَيَانٌ لِأَوْقَاتِ الْأَعْذَارِ لَا مُطْلَقًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يُفْهَمُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ» مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَبِهِ أَيْضًا يُفْهَمُ وَجْهُ إِنْكَارِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَإِنْكَارِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَذَلِكَ وَاحْتِجَاجِ عُرْوَةَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ وَلَفَظُ كَانَ يَفْعَلُ يَقْتَضِي الْكَثْرَةَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فَكَأَنَّهُ احْتَجَّ عَلَيْهِ فِي مُخَالَفَةِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا احْتَجَّ أَيْضًا أَبُو مَسْعُودٍ عَلَى الْمُغَيَّرَةِ بِأَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى إِلَى أَنْ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْتَ»، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِلدَّاخِلِ لِلْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ، وَأَشْبَاهِهِ. وَكَمَا جَاءَ فِي قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ تَرْكِ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ حَتَّى جَاءَتْ خِلَافَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَعَمِلَ بِذَلِكَ لِزَوَالِ عِلَّةِ الْإِيجَابِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ كِبَارُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَنْصَرِفُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى بُيُوتِهِمْ وَلَا يَقُومُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَاسْتَحَبَّهُ مَالِكٌ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا الْأَصْلِ رَدَّتْ عَائِشَةُ تَرْكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِدَامَةَ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى فَعَمِلَتْ بِهَا لِزَوَالِ الْعِلَّةِ بِمَوْتِهِ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعَ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. وَكَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ تَقُولُ لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتُهَا. فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى مَا فَهِمَتْ مِنْ تَرْكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَاوَمَةِ عَلَى الضُّحَى، فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ، ثُمَّ نَهَى عَنِ الْوِصَالِ وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ مِنْ ذَلِكَ عَائِشَةُ، وَغَيْرُهَا أَنَّ النَّهْيَ لِلرِّفْقِ فَوَاصَلُوا وَلَمْ يُوَاصِلُوا كُلُّهُمْ، وَإِنَّمَا وَاصَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَانَ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى الْوِصَالِ وَلَمْ يَتَخَوَّفُوا عَاقِبَتَهُ مِنَ الضَّعْفِ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرَةٌ، وَحُكْمُهُ الَّذِي يَنْبَغِي فِيهِ الْمُوَافَقَةُ لِلْعَمَلِ الْغَالِبِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَتَرْكُ الْقَلِيلِ، أَوْ تَقْلِيلُهُ حَسَبَمَا فَعَلُوهُ أَمَّا فِيمَا كَانَ تَعْرِيفًا بِحَدٍّ، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَقَدِ اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَكَذَلِكَ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا جَاءَ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَيَظْهَرُ لَكَ بِالنَّظَرِ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ. فَقِيَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ تَرْكُهُ بِإِطْلَاقٍ مَخَافَةَ التَّشْرِيعِ يُوجَدُ مِثْلُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُنْتَصِبُونَ; لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَفِي بَابِ الْبَيَانِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ لِهَذَا بَيَانٌ فَيُوشِكُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْجَاهِلُ بِالْفِعْلِ إِذَا رَأَى الْعَالِمَ مُدَاوِمًا عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَسَدُّ الذَّرَائِعِ مَطْلُوبٌ مَشْرُوعٌ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الشَّرْعِ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ لَهُ ذِكْرٌ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ الصَّحَابَةُ كَمَا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، فَلَا بَأْسَ، وَسُنَّتُهُمْ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَقَدْ حَفِظَ اللَّهُ فِيهَا هَذَا الْمَحْظُورَ الَّذِي هُوَ ظَنُّ الْوُجُوبِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى إِعْمَالِهِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ إِلَّا وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، وَيَتَحَرَّوْنَهُ أَيْضًا فَكَانَ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَعَمَلِهِمِ الْقِيَامُ فِي الْبُيُوتِ أَوْلَى وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْقِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ أَوْلَى لِمَنْ لَمْ يَسْتَظْهِرِ الْقُرْآنَ، أَوْ لِمَنْ لَا يَقْوَى إِلَّا بِالتَّأَسِّي فَكَانَتْ أَوْلَوِيَّتُهُ لِعُذْرٍ كَالرُّخْصَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبُيُوتَ أَوْلَى فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُقَدَّمُ، وَمَا رَآهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ فَسُنَّةٌ أَيْضًا وَلِذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لَا يَنْبَغِي تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ عَنْهَا جُمْلَةً; لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الصَّحَابَةِ. وَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى فَشَهَادَةُ عَائِشَةَ بِأَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا قَطُّ دَلِيلٌ عَلَى قِلَّةِ عَمَلِهِ بِهَا، ثُمَّ الصَّحَابَةُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ عُمُومُ الْعَمَلِ بِهَا، وَإِنَّمَا دَاوَمَ مَنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ بِمَكَانٍ لَا يُتَأَسَّى بِهِمْ فِيهِ كَالْبُيُوتِ عَمَلًا بِقَاعِدَةِ الدَّوَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَلِأَنَّ عَائِشَةَ فَهِمَتْ أَنَّهُ لَوْلَا خَوْفُ الْإِيجَابِ لَدَاوَمَ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي عَمَلِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ إِلَّا أَنَّ ضَمِيمَةَ إِخْفَائِهَا يَصُدُّ عَنِ الِاقْتِدَاءِ. وَمِنْ هُنَا لَمْ تُشْرَعِ الْجَمَاعَةُ فِي النَّوَافِلِ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ فِي بَعْضِ مُؤَكَّدَاتِهَا كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ، وَنَحْوِهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ النَّوَافِلَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ حَتَّى جَعَلَهَا فِي ظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا فَلِذَلِكَ صَلَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَيْتِ مُلَيْكَةَ رَكْعَتَيْنِ فِي جَمَاعَةٍ وَصَلَّى بِابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ بِاللَّيْلِ جَمَاعَةً وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ فِي النَّاسِ وَلَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَا شَهَرَهُ فِيهِمْ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ عَامَّةُ عَمَلِهِ فِي النَّوَافِلِ عَلَى حَالِ الِانْفِرَادِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْقَرَائِنُ كُلُّهَا مَعَ مَا انْضَافَ إِلَيْهَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُشْتَهَرْ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ وَلَا وَاظَبُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ دَائِمًا وَلَا كَثِيرًا أَنَّهُ مَرْجُوحٌ، وَأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى أَصْلِ الذَّرِيعَةِ اشْتَدَّ الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْقَضَايَا فَكَانَ الْعَمَلُ عَلَى مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ أَوْلَى، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ بِهِ مَالِكٌ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجِيزُ الْجَمَاعَةَ فِي النَّافِلَةِ فِي الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَيْثُ لَا يَكُونُ مَظِنَّةَ اشْتِهَارٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ يَكْرَهُهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوِصَالِ، فَإِنَّ الْأَحَقَّ وَالْأَوْلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عَامَّتُهُمْ وَلَمْ يُوَاصِلْ خَاصَّتُهُمْ حَتَّى كَانُوا فِي صِيَامِهِمْ كَالْعَامَّةِ فِي تَرْكِهِمْ لَهُ لِمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي هِيَ أُنْمُوذَجٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» مَعَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ يَسْرِدُ الصِّيَامَ قَالَ: بَعْدَ مَا ضَعُفَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ طَلَبَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَطْلَبُ الْمُكَلَّفَ بِالرِّفْقِ وَالْقَصْدِ خَوْفَ الِانْقِطَاعِ، وَقَدْ مَرَّ لِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فَكَانَ الْأَحْرَى الْحَمْلَ عَلَى التَّوَسُّطِ وَلَيْسَ إِلَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، وَمَا وَاظَبُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَاحْمِلْ نَظَائِرَ هَذَا الضَّرْبِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ. مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلًا فِي نَفْسِهِ فَيَخْتَلِفُوا فِيهِ بِحَسَبِ مَا يَقْوَى عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ، أَوْ يُخْتَلَفُ فِي أَصْلِهِ وَالَّذِي هُوَ أَبْرَأُ لِلْعُهْدَةِ، وَأَبْلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ تَرْكُهُ وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ كَقِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ إِكْرَامًا لَهُ، وَتَعْظِيمًا، فَإِنَّ الْعَمَلَ الْمُتَّصِلَ تَرْكُهُ، فَقَدْ كَانُوا لَا يَقُومُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ الصَّحَابَةِ عَمَلٌ مُسْتَمِرٌّ وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ حَتَّى رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ قَامُوا لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: إِنْ تَقُومُوا نَقُمْ، وَإِنْ تَقْعُدُوا نَقْعُدْ، وَإِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَقِيَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَعْفَرٍ ابْنِ عَمِّهِ، وَقَوْلُهُ قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَالْأَوْلَى خِلَافُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ نَظَرْنَا فِيهِ وَجَدْنَاهُ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ أَوْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى اللِّقَاءِ لِشَوْقٍ يَجِدُهُ الْقَائِمُ لِلْمَقُومِ لَهُ، أَوْ لِيُفْسِحَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى يَجِدَ مَوْضِعًا لِلْقُعُودِ، أَوْ لِلْإِعَانَةِ عَلَى مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَمَلُ. وَإِذَا احْتَمَلَ الْمَوْضِعُ طُلِبْنَا بِالْوُقُوفِ مَعَ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ الْقَلِيلُ غَيْرَ مُعَارِضٍ لَهُ فَنَحْنُ فِي اتِّبَاعِ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَبَرَاءَةِ ذِمَّةٍ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ رَجَعْنَا إِلَى هَذَا الْمُحْتَمَلِ لَمْ نَجِدْ فِيهِ مَعَ الْمُعَارِضِ الْأَقْوَى وَجْهًا لِلتَّمَسُّكِ إِلَّا مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لَا يَقْوَى قُوَّةَ مُعَارِضِهِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قِصَّةُ مَالِكٍ مَعَ سُفْيَانَ فِي الْمُعَانَقَةِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ: كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِجَعْفَرٍ فَقَالَ سُفْيَانُ مَا يَخُصُّهُ يَخُصُّنَا، وَمَا يَعُمُّهُ يَعُمُّنَا إِذَا كُنَّا صَالِحِينَ. فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَالِكٌ عَمِلَ فِي الْمُعَانَقَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَجَعَلَ مُعَانَقَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْرًا خَاصًّا أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فَالَّذِي يَنْبَغِي وَقْفُهُ عَلَى مَا جَرَى فِيهِ. وَكَذَلِكَ تَقْبِيلُ الْيَدِ إِنْ فَرَضْنَا، أَوْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ مَا رُوِيَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ تَقْبِيلُ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا نَادِرًا، ثُمَّ لَمْ يَسْتَمِرَّ فِيهِ عَمَلٌ إِلَّا التَّرْكُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَدَلَّ عَلَى مَرْجُوحِيَّتِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ سُجُودُ الشُّكْرِ إِنْ فَرَضْنَا ثُبُوتَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ مَعَ كَثْرَةِ الْبَشَائِرِ الَّتِي تَوَالَتْ عَلَيْهِ وَالنِّعَمِ الَّتِي أُفْرِغَتْ عَلَيْهِ إِفْرَاغًا فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ مُوَاظَبَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا جَاءَ عَنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ مِثْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؛ إِذْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُ، فَكَانَ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ تَرْكًا لِلْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ. وَمِنْ هَذَا الْمَكَانِ يُتَطَلَّعُ إِلَى قَصْدِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَعْلِهِ الْعَمَلَ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَحَادِيثِ; إِذْ كَانَ إِنَّمَا يُرَاعِي كُلَّ الْمُرَاعَاةِ الْعَمَلَ الْمُسْتَمِرَّ وَالْأَكْثَرَ، وَيَتْرُكُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِنْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ، وَكَانَ مِمَّنْ أَدْرَكَ التَّابِعِينَ وَرَاقَبَ أَعْمَالَهُمْ، وَكَانَ الْعَمَلُ الْمُسْتَمِرُّ فِيهِمْ مَأْخُوذًا عَنِ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَمِرًّا فِيهِمْ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي عَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِي قُوَّةِ الْمُسْتَمِرِّ. وَقَدْ قِيلَ لِمَالِكٍ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إِنَّ التَّشَهُّدَ فَرْضٌ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ أَحَدٌ يَعْرِفُ التَّشَهُّدَ؟ فَأَشَارَ إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ كَالْمُبْتَدِعِ الَّذِي جَاءَ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الْأَذَانِ فَقَالَ مَالِكٌ: وَمَا حَاجَتُكَ إِلَى ذَلِكَ؟ فَعَجَبًا مِنْ فَقِيهٍ يَسْأَلُ عَنِ الْأَذَانِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ مَالِكٌ: وَكَيْفَ الْأَذَانُ عِنْدَكُمْ؟ فَذَكَرَ مَذْهَبَهُمْ فِيهِ، فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ فَذَكَرَ لَهُ أَنَّ بِلَالًا لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ سَأَلُوهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهُمْ فَأَذَّنَ لَهُمْ كَمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: مَا أَدْرِي مَا أَذَانُ يَوْمٍ؟ وَمَا صَلَاةُ يَوْمٍ؟ هَذَا مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ يُؤَذِّنُونَ فِي حَيَاتِهِ، وَعِنْدَ قَبْرِهِ، وَبِحَضْرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ. فَأَشَارَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَثَبَتَ مُسْتَمِرًّا أَثْبَتُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَأَوْلَى أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَصْلًا لِهَذَا الْمَعْنَى عَظِيمًا يَجِلُّ مَوْقِعُهُ عِنْدَ مَنْ نَظَرَ إِلَى مَغْزَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِي إِلَيْهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ شُكْرًا فَقَالَ لَا يَفْعَلُ لَيْسَ مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ قِيلَ: لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فِيمَا يَذْكُرُونَ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا، أَفَسَمِعْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولَ هَذَا شَيْءٌ لَمْ نَسْمَعْ لَهُ خِلَافًا، ثُمَّ قَالَ: قَدْ فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ إِذَا جَاءَكَ مِثْلُ هَذَا مِمَّا كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُسْمَعُ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ فَهَذَا إِجْمَاعٌ إِذَا جَاءَكَ الْأَمْرُ لَا تَعْرِفُهُ فَدَعْهُ. هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الْعَامَّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَفِي أَيِّ مَحَلٍّ وَقَعَ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَلَائِلِ مَا نُقِلَ وَلَا نَوَادِرِ الْأَفْعَالِ إِذَا عَارَضَهَا الْأَمْرُ الْعَامُّ وَالْكَثِيرُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَلِيلُ خَاصًّا بِزَمَانِهِ، أَوْ بِصَاحِبِهِ الَّذِي عَمِلَ بِهِ، أَوْ خَاصًّا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي غَيْرِ مَا تَقَيَّدَ بِهِ كَمَا قَالُوا فِي مَسْحِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ كَانَ بِهِ مَرَضٌ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِذْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجَلِ الدَّافَّةِ». وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا فُعِلَ فَلْتَةً فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ وَلَا غَيْرُهُ وَلَا يَشْرَعُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَأْذَنُ فِيهِ ابْتِدَاءً لِأَحَدٍ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ إِذْنًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي بَعَثَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَمْرٍ فَعَمِلَ فِيهِ، ثُمَّ رَأَى أَنْ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَرَبَطَ نَفْسَهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يَحُلَّهُ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَا إِنَّهُ لَوْ جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ»، وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ حَتَّى حَكَمَ اللَّهُ فِيهِ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا يَقْتَضِي أَصْلَ الْمَشْرُوعِيَّةِ ابْتِدَاءً وَلَا دَوَامًا أَمَّا الِابْتِدَاءُ فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا دَوَامًا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فِيهِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِزَمَانِهِ; إِذْ لَا وُصُولَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَقَدِ انْقَطَعَ بَعْدَهُ، فَلَا يَصِحُّ الْإِبْقَاءُ عَلَى ذَلِكَ لِغَيْرِهِ حَتَّى يُنْتَظُرَ الْحُكْمُ فِيهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ لَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ، فَإِذًا الْعَمَلُ بِمِثْلِهِ أَشَدُّ غَرَرًا; إِذْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ تَشْرِيعٌ يَشْهَدُ لَهُ وَلَوْ كَانَ قَبْلَهُ تَشْرِيعٌ لَكَانَ اسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ كَافِيًا فِي مَرْجُوحِيَّتِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ رَأْيًا لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ; إِذْ كَانَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَيُجِيزَهُ، أَوْ يَمْنَعَهُ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الِاجْتِهَادِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ أَكَلَ بَرَدًا، وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ فَقِيلَ لَهُ: أَتَأْكُلُ الْبَرَدَ، وَأَنْتَ صَائِمٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ بَرَدٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ نُطَهِّرُ بِهِ بُطُونَنَا، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ لَمْ يَقِفِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فَيُعَلِّمَهُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِيهِ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ مِثْلُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ عُمَرُ شَيْئًا; إِذْ لَمْ يُخْبَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ. فَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: وَالَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ عَنْ يَمِينِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ بِرَأْيهِ، فَقَالَ أَعْجِلْ بِهِ عَلَيَّ فَجَاءَ زَيْدٌ فَقَالَ عُمَرُ قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ تُفْتِيَ النَّاسَ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرَأْيِكَ، فَقَالَ زَيْدٌ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَفْتَيْتُ بِرَأْيِي وَلَكِنِّي سَمِعْتُ مِنْ أَعْمَامِي شَيْئًا فَقُلْتُ بِهِ، فَقَالَ مِنْ أَيِّ أَعْمَامِكَ فَقَالَ مِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي أَيُّوبَ وَرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ عُمَرُ فَقَالَ مَا يَقُولُ هَذَا الْفَتَى، فَقَلْتُ إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَا نَغْتَسِلُ قَالَ: أَفَسَأَلْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيث: لَئِنْ أُخْبِرْتُ بِأَحَدٍ يَفْعَلُهُ، ثُمَّ لَا يَغْتَسِلُ لَأَنْهَكْتُهُ عُقُوبَةً. فَهَذَا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ، وَالشَّاهِدُ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَا اسْتَمَرَّ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ عَلَى حَالٍ فَكَفَى بِمِثْلِهِ حُجَّةً عَلَى التَّرْكِ. وَمِنْهَا إِمْكَانُ أَنْ يَكُونَ عُمِلَ بِهِ قَلِيلًا، ثُمَّ نُسِخَ فَتُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ جُمْلَةً، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً بِإِطْلَاقٍ فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ فِي مِثْلِهِ الْوُقُوفُ مَعَ الْأَمْرِ الْعَامِّ. وَمِثَالُهُ حَدِيثُ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلِ اسْتِمْرَارُ عَمَلٍ بِهِ وَلَا كَثْرَةٌ، فَإِنَّ غَالِبَ الرِّوَايَةِ فِيهِ دَائِرَةٌ عَلَى عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُمَا أَوَّلُ مَنْ خَالَفَاهُ فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ امْرَأَةٍ مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمٌ، فَقَالَتْ: أَطْعِمُوا عَنْهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ أَمَرُوا أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّيَ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ عَنْ نَفْسِهِ. فَهَذَا إِخْبَارٌ بِتَرْكِ الْعَمَلِ دَائِمًا فِي مُعْظَمِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ يَلِيهِمْ، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا أَنَّهُ عَوَّلَ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ عَمَلِهِ. وَقَدْ سُئِلَ عَنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ الَّذِي فِي الْمُفَصَّلِ، وَقِيلَ لَهُ: أَتَسْجُدُ أَنْتَ فِيهِ فَقَالَ: لَا، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لَكَ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: أَحَبُّ الْأَحَادِيثِ إِلَيَّ مَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَجْتَمِعِ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ مِنْ حَدِيثِ النَّاسِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْقُرْآنُ يَقُولُ اللَّهُ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] فَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ خَطَرًا، وَفِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فَكَيْفَ بِالْأَحَادِيثِ. وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُجْتَمَعْ عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعَمَلَ بِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ النَّاسِخُ لِلْآخَرِ; إِذْ كَانُوا إِنَّمَا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: أَعْيَا الْفُقَهَاءَ وَأَعْجَزَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَمَّا أَخَذَ مَالِكٌ بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ وَطَرَحَ مَا سِوَاهُ انْضَبَطَ لَهُ النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ عَلَى يُسْرٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَثَمَّ أَقْسَامٌ أُخَرُ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِيهَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَتَحَرَّى الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِ الْأَوَّلِينَ، فَلَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ فِي الْعَمَلِ بِالْقَلِيلِ إِلَّا قَلِيلًا، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ، وَمَسِّ الضَّرُورَةِ إِنِ اقْتَضَى مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَلَمْ يَخَفْ نَسْخَ الْعَمَلِ، أَوْ عَدَمَ صِحَّةٍ فِي الدَّلِيلِ. أَوِ احْتِمَالًا لَا يَنْهَضُ بِهِ الدَّلِيلُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَمَّا لَوْ عَمِلَ بِالْقَلِيلِ دَائِمًا لَلَزِمَهُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الْمُخَالَفَةُ لِلْأَوَّلِينَ فِي تَرْكِهِمُ الدَّوَامَ عَلَيْهَا، وَفِي مُخَالَفَةِ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ مَا فِيهَا. وَالثَّانِي: اسْتِلْزَامُ تَرْكِ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ; إِذِ الْفَرْضُ أَنَّهُمْ دَاوَمُوا عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْآثَارِ فَإِدَامَةُ الْعَمَلِ عَلَى مُوَافَقَةِ مَا لَمْ يُدَاوِمُوا عَلَيْهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى انْدِرَاسِ أَعْلَامِ مَا دَاوَمُوا عَلَيْهِ وَاشْتِهَارِ مَا خَالَفَهُ; إِذِ الِاقْتِدَاءُ بِالْأَفْعَالِ أَبْلَغُ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَقْوَالِ فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كَانَ أَشَدَّ. الْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَوَّلِينَ فَلَوْ كَانَ ثَمَّ فَضْلٌ مَا لَكَانَ الْأَوَّلُونَ أَحَقَّ بِهِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَثْبُتَ عَنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ عَلَى حَالٍ فَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَارِيَةٌ هُنَا بِالْأَوْلَى، وَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مَا زَعَمُوا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ؛ إِذْ لَوْ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ لَمْ يَعْزُبْ عَنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ثُمَّ يَفْهَمُهُ هَؤُلَاءِ فَعَمَلُ الْأَوَّلِينَ- كَيْفَ كَانَ- مُصَادِمٌ لِمُقْتَضَى هَذَا الْمَفْهُومِ، وَمُعَارِضٌ لَهُ وَلَوْ كَانَ تَرْكَ الْعَمَلِ، فَمَا عَمِلَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأَوَّلِينَ وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ، أَوْ تَرْكٍ فَهُوَ السُّنَّةُ وَالْأَمْرُ الْمُعْتَبَرُ، وَهُوَ الْهُدَى وَلَيْسَ ثَمَّ إِلَّا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ، فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ عَلَى خَطَأٍ، وَهَذَا كَافٍ، وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ الْعُلَمَاءُ بِمِثْلِهِ جَارٍ هَذَا الْمَجْرَى. وَمِنْ هُنَالِكَ لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ السُّنَّةِ دَعْوَى الرَّافِضَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ; لِأَنَّ عَمَلَ كَافَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهِ، أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ، وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُحَمِّلُونَهُمَا مَذَاهِبَهُمْ، وَيُغَبِّرُونَ بِمُشْتَبِهَاتِهِمَا فِي وُجُوهِ الْعَامَّةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ كَالِاسْتِدْلَالَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى سُوءِ مَذَاهِبِهِمْ بِمَا هُوَ شَهِيرٌ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ، وَسَيَأْتِي مِنْهُ أَشْيَاءُ فِي دَلِيلِ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاسْتِدْلَالِ التَّنَاسُخِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا زَعَمُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الِانْفِطَار: 8]. وَكَثِيرٌ مِنْ فِرَقِ الِاعْتِقَادَاتِ تَعَلَّقَ بِظَوَاهِرَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي تَصْحِيحِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِمَّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وَلَا وَقَعَ بِبَالِ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ، وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهُ أَيْضًا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَجَازَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْإِدَارَةِ، وَذِكْرَ اللَّهِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ، وَبِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمُ» الْحَدِيثَ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ..» إِلَخْ، وَبِسَائِرِ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ. وَكَذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ دُعَاءِ الْمُؤَذِّنِينَ بِاللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 52]، وَقَوْلِه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الْأَعْرَاف: 55]. وَبِجَهْرِ قُوَّامِ اللَّيْلِ بِالْقُرْآنِ وَاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى الرَّقْصِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَغَيْرِهَا بِحَدِيثِ لَعِبِ الْحَبَشَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ: «دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ». وَاسْتِدْلَالُ كُلِّ مَنِ اخْتَرَعَ بِدْعَةً، أَوِ اسْتَحْسَنَ مُحْدَثَةً لَمْ تَكُنْ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ بِأَنَّ السَّلَفَ اخْتَرَعُوا أَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَكَتْبِ الْمُصْحَفِ، وَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ، وَتَدْوِينِ الدَّوَاوِينِ، وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَسَائِرِ مَا ذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَصْلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ فَخَلَطُوا، وَغَلِطُوا وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنَ الشَّرِيعَةِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهَا، وَهُوَ كُلُّهُ خَطَأٌ عَلَى الدِّينِ وَاتِّبَاعٌ لِسَبِيلِ الْمُلْحِدِينَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا هَذِهِ الْمَدَارِكَ، وَعَبَرُوا عَلَى هَذِهِ الْمَسَالِكِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَدْرَكُوا مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْأَوَّلُونَ، أَوْ حَادُوا عَنْ فَهْمِهَا، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الصَّوَابُ؛ إِذِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ هُمْ كَانُوا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا إِلَّا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمُحْدَثَاتُ لَمْ تَكُنْ فِيهِمْ وَلَا عَمِلُوا بِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَرَعَةَ بِحَالٍ وَصَارَ عَمَلُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ دَلِيلًا إِجْمَاعِيًّا عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ، وَعَمَلِهِمْ مُخْطِئُونَ وَمُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ. فَيُقَالُ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ: هَلْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَنْبَطْتَ فِي عَمَلِ الْأَوَّلِينَ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ: أَفَكَانُوا غَافِلِينَ عَمَّا تَنَبَّهْتَ لَهُ، أَوْ جَاهِلِينَ بِهِ أَمْ لَا؟ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَقُولَ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ فَتْحٌ لِبَابِ الْفَضِيحَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِمَآخِذِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ كَمَا كَانُوا عَارِفِينَ بِمَآخِذِ غَيْرِهَا قِيلَ لَهُ فَمَا الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى زَعْمِكَ حَتَّى خَالَفُوهَا إِلَى غَيْرِهَا مَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِيهَا عَلَى الْخَطَأِ دُونَكَ أَيُّهَا الْمُتَقَوِّلُ، وَالْبُرْهَانُ الشَّرْعِيُّ وَالْعَادِيُّ دَالٌّ عَلَى عَكْسِ الْقَضِيَّةِ فَكُلُّ مَا جَاءَ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ فَهُوَ الضَّلَالُ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مَا انْتَحَلَهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِينَ، وَإِذَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَوُجِدَ لَهُ فِي الْأَدِلَّةِ مَسَاغٍ، فَلَا مُخَالَفَةَ، إِنَّمَا الْمُخَالَفَةُ أَنْ يُعَانِدَ مَا نَقَلَ عَنْهُمْ بِضِدِّهِ، وَهُوَ الْبِدْعَةُ الْمُنْكَرَةُ قِيلَ لَهُ: بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّ مَا سُكِتَ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَظِنَّةُ الْعَمَلِ بِهِ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُشْرَعْ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا مَضَى فِيهِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى مُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ لِمَا عَمِلَ بِهِ هَؤُلَاءِ مُضَادٌ لَهُ فَمَنِ اسْتَلْحَقَهُ صَارَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تُوجَدَ مَظِنَّةُ الْعَمَلِ بِهِ، ثُمَّ تُوجَدَ فَيُشْرَعُ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ يُلَائِمُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ فِي مِثْلِهِ، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ، وَهِيَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا؛ إِذْ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَلَا يَصِحُّ إِدْخَالُ ذَلِكَ تَحْتَ جِنْسِ الْبِدَعِ. وَأَيْضًا فَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهَا لَا تَدْخُلُ فِي التَّعَبُّدَاتِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ أَصْلِ الْمِلَّةِ، وَحِيَاطَةِ أَهْلِهَا فِي تَصَرُّفَاتِهِمُ الْعَادِيَّةِ وَلِذَلِكَ تَجِدُ مَالِكًا، وَهُوَ الْمُسْتَرْسِلُ فِي الْقَوْلِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مُشَدِّدًا فِي الْعِبَادَاتِ أَنْ لَا تَقَعَ إِلَّا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِينَ فَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ، وَكَرِهَ أَشْيَاءَ، وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُ الْأَدِلَّةِ لَا يَنْفِيهَا بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا تَقَيَّدَتْ مُطْلَقَاتُهَا بِالْعَمَلِ، فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَمَهَّدَ أَيْضًا فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُطْلَقَ إِذَا وَقَعَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي غَيْرِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ، أَوِ الْإِذْنَ إِذَا وَقَعَ عَلَى أَمْرٍ لَهُ دَلِيلٌ مُطْلَقٌ فَرَأَيْتُ الْأَوَّلِينَ قَدْ عَنَوْا بِهِ عَلَى وَجْهٍ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُهُمْ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ يَتْبَعُهُ فِي إِعْمَالِ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي بَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَإِذًا لَيْسَ مَا انْتَحَلَ هَذَا الْمُخَالِفُ الْعَمَلَ بِهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَلَا مِنْ قَبِيلِ مَا أَصْلُهُ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ فَلَمْ يَبْقَ إِذًا أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارِضِ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْأَقْدَمِينَ، وَكَفَى بِذَلِكَ مَزِلَّةُ قَدَمٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ لِعَمَلِ الْأَوَّلِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ فِيهَا مَا هُوَ خَفِيفٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَدِيدٌ، وَتَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يَسْتَدْعِي طُولًا فَلْنَكِلْهُ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَكِنَّ الْمُخَالِفَ عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَبْلُغَ فِي اجْتِهَادِهِ غَايَةَ الْوُسْعِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِ الِاجْتِهَادَ حَقَّهُ وَقَصَّرَ فِيهِ فَهُوَ آثِمٌ حَسْبَمَا بَيَّنَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيهِ غَلَطًا، أَوْ مُغَالَطَةً؛ إِذْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَهْلُ الرُّتْبَةِ وَلَا رَأَوْهُ أَهْلًا لِلدُّخُولِ مَعَهُمْ فَهَذَا مَذْمُومٌ. وَقَلَّمَا تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ لِعَمَلِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِلَّا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقِسْمِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا لَا يَخْتَلِفُونَ إِلَّا فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ أَوْ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَوَارِدِ الظُّنُونِ لَا ذِكْرَ لَهُمْ فِيهَا فَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَافُ الْأَوَّلِينَ فِي الْعَمَلِ وَالثَّانِي: يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَرَيَانُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ عَمَلٌ. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَإِنَّ أَهْلَهُ لَا يَعْرِفُونَ مَا فِي مُوَافَقَةِ الْعَمَلِ مِنْ أَوْجُهِ الرُّجْحَانِ، فَإِنَّ مُوَافَقَتَهُ شَاهِدٌ لِلدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ، وَمُصَدِّقٌ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا يُصَدِّقُهُ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِعْلِيٌّ، بِخِلَافٍ مَا إِذَا خَالَفَهُ، فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ مُوهِنَةٌ لَهُ، أَوْ مُكَذِّبَةٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَمَلَ مُخَلِّصٌ لِلْأَدِلَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الْمَحَامِلِ الْمُقَدَّرَةِ الْمُوهِنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَتَى نَظَرَ فِي دَلِيلٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ احْتَاجَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا يَسْتَقِيمُ إِعْمَالُ الدَّلِيلِ دُونَهَا وَالنَّظَرُ فِي أَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَاطِعٌ لِاحْتِمَالَاتِهَا حَتْمًا، وَمُعَيِّنٌ لِنَاسِخِهَا مِنْ مَنْسُوخِهَا، وَمُبَيِّنٌ لِمُجْمَلِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ عَوْنٌ فِي سُلُوكِ سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ عَظِيمٌ وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَوَاهِرَ الْأَدِلَّةِ إِذَا اعْتُبِرَتْ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى الْأَوَّلِينَ فِيهَا مُؤَدِّيَةٌ إِلَى التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَعْنًى، وَلِأَنَّ تَعَارُضَ الظَّوَاهِرِ كَثِيرٌ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا وَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِرْقَةً مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَلَا أَحَدًا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَحْكَامِ لَا الْفُرُوعِيَّةِ وَلَا الْأُصُولِيَّةِ يَعْجِزُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَذْهَبِهِ بِظَوَاهِرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ مَرَّ مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةٌ، بَلْ قَدْ شَاهَدْنَا وَرَأَيْنَا مِنَ الْفُسَّاقِ مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَسَائِلِ الْفِسْقِ بِأَدِلَّةٍ يَنْسُبُهَا إِلَى الشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّهَةِ، وَفِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ ذَلِكَ أَطْرَافٌ مَا أَشْنَعَهَا فِي الِافْتِئَاتِ عَلَى الشَّرِيعَةِ. وَانْظُرْ فِي مَسْأَلَةِ التَّدَاوِي مِنَ الْخُمَارِ فِي دُرَّةِ الْغَوَّاصِ لِلْحَرِيرِيِّ، وَأَشْبَاهِهَا، بَلْ قَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ الْآنَ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ تَحَيَّلَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ فِي التَّوْحِيدِ {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الْإِسْرَاء: 43]. فَلِهَذَا كُلِّهِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ نَاظِرٍ فِي الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ مُرَاعَاةُ مَا فَهِمَ مِنْهُ الْأَوَّلُونَ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ أَحْرَى بِالصَّوَابِ، وَأَقْوَمُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَلِهَذَا الْأَمْرِ سَبَبٌ نَذْكُرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَهِيَ.
|